كيف يحرق الله ناداب وأبيهو إبني هرون لمجرد خطأ بسيط، وهو وضعْ نار غريبة في مجامرهما (لا 10 : 1، 2) ويعفي عن هرون الذي قاد الشعب لعبادة العجل الذهبـي؟ (البهريز جـ1 س337) كما يقول ناجح المعموري ” أن سبب المجزرة التي أقترفها الرب يهوه، هي السعي لإيقاف الثورات الداخلية التي إتسعت كثيراً وتنامت ” (1).
ويقول الدكتور محمد بيومي ” وتُصوّر التوراة الله – حين تتعرض لشريعة الطقوس والذبائح والقرابين – بأنه قد إختص بهم دون سواهم، وأن نفسه ترتاح وتنتعش من رائحة الدخان المتصاعد من المحرقات.. وأنه يغضب كل الغضب إذا لم تُقدم له في الصورة التي يرضاها، أو إذا قدمت إليـه في صورة غير الصورة المقرَّرة في شريعتهم، وأنه قد يصب غضبه حينئذ على المقصرين فيرسل عليهم ناراً تحرقهم { وأخذ أبناء هرون ناداب وأبيهو كل منهم مجمرته وجعلا فيها ناراً غريبة ووضعا عليها بخورأ. وقرَّبا أمام الرب ناراً غريبة لم يأمرهما بهأ. فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب } (لا 10 : 1، 2) ” (2).
(1) أقنعة التوراة ص 213
(2) تاريخ الشرق الأدنى القديم – تاريخ اليهود ص 237
حلمي القمص يعقوب
1- سبق مناقشة خطية هرون فيرجى الرجوع إلى إجابة السؤال رقم 701.
2- كرس موسى هرون وبنيه لخدمة الكهنوت فغسلهم بالماء، وألبسهم الملابس الكهنوتية ملابس المجد والبهاء، وقدم عنهم ذبيحة خطية وكبش محرقة وكبش ملء، وأمرهم بملازمة خيمة الإجتماع سبعة أيام (لا 8) وفي اليوم الثامن دعا موسى هرون وبنيه الأربعة، فبدأ هرون يمارس عمله الكهنوتي حيث قـدم ذبائح عن نفسه وعن الشعب، وعندما أظهر الشعب وقادته خضوعهم للوصايا الإلهية ” فتراءى مجد الله لكل الشعب وخرجت نار من عند الرب وأحرقت على المذبح المحرقة والشحم فرأى جميع الشعب وهتفوا وسقطوا على وجوههم ” (لا 9 : 23، 24) فهذه النار هي نار مقدَّسة لا تطفأ أبداً، والكاهن الذي يُقدم البخور مُلزَّم أن يأخذ من هذه النار بحسب الأمر الإلهي ” ويأخذ ملء المجمرة جمر نار من المذبح من أمام الرب وملء راحتيه بخوراً عطراً دقيقاً ويدخل بها إلى داخل الحجاب ” (لا 16 : 12) أما ناداب وأبيهو فقد ” قرَّبا أمام الرب نار غريبة لم يأمرهما بها ” (لا 10 : 1) هذان هما ناداب وأبيهو اللذان وُلِدا في أرض مصر، وعاينا أعمال الله وعجائبه مع شعبه، وكم كان أبيهما هرون وعمهما موسى قريبان من المقدَّسات، فناداب وأبيهو عرفا الكثير مما ألقى مسئولية أكبر على عاتقهما، كما أنهما كانا في مركز القيادة، فإن إستهانا بالمقدَّسات ينحرف الشعب وراءهمأ. ثم أن النار المقدَسة كانت في متناول يدهم، فأي عذر لهم عندما جلبوا ناراً غريبة؟! ولذلك جاءت العقوبة الإلهية فورية، وإذ أخطأ الأثنـان فـي النار، قتلا بالنار ” خرجت نار من عند الرب وأكلتهما. فماتا أمام الرب فقال موسى لهرون هذا ما تكلَّم به الرب قائلاً في القريبين مني أتقدَّس وأمام جميع الشعب أتمجد. فصمت هرون ” (لا 10 : 2، 3) صمت هرون ولسان حاله يقول مع المرنم ” صمتُ0 لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت ” (مز 39 : 3). لقد قتلتهما النار لكنها لم تحرقهما، بل بقى جسديهما كاملاً، وحتى قميصيهما لم يحترقا، ليعلم الجميع أن هذه النار تختلف عـن أي نار أخرى، وهي تمثل عقوبة إلهية.
3- قدم ناداب وأبيهو البخور في آن واحد، بينما كان من المفروض أن يقدمه واحد فقط، إذاً حول هذان الشخصان العبادة إلى منافسة، وقد أوقد الإثنان البخور في غير وقته، لأنه كان من المفروض أن يقترن تقديم البخــور بذبيحة الصباح وذبيحة المساء (خر 30 : 7، 8).
4- عقب هذه الحادثة مباشرة جاءت الوصية الإلهية بالتحذير من شرب الخمر ” كلَّم الرب هرون قائلأ. خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الإجتماع لكي لا تموتوأ. فرضاً دهرياً في أجيالكم0 وللتمييز بين المقدَّس والمحلَّل وبين النجس والطاهر ” (لا 10 : 8 – 10) وجاء في التقليد اليهودي بأن ناداب وأبيهو قدما ناراً غريبة وهما في حالة سكر، ولم يكونا في وعيهما، مما أفقدهما التمييز بين المقدَّس والمحلَّل وبين النجس والطاهر.
5- يقول القديس مارآفرام السرياني ” أن النار لما إنحدرت من السماء وأحرقت الذبائح (في المرة الأولى) أمر هرون بنيه أن يحتفظوا بها ولا تُطفأ أبداً، وهم تهاونوا حتى إنطفأت. ولحشمتهم وخوفهم أحضروا ناراً غريبة، فأحرقتهم بسرعة، نار من قبل الرب00
إن بني هرون، لما إحترقوا داخل قدس الرب، قال موسى لأخيه هرون : هكذا قال الرب : إني أتمجَّد، أتقدَّس بالقريبين مني. فصمت هرون ولم يتكلم0 صمت لما أعلمه أخوه أن الرب إنما أحرقهم عند معصيتهم لكي يتمجد بهم، لأن الكهنة القريبين منه، إذا هم كانوا يمجدونه قدام شعبه بحفظ وصاياه، مجَّدهم هو أكثر0 وإذا هم أهانوه بمعصية وصاياه، مجَّد هو ذاته قدام شعبه، بهلاك أولئك وسرعة العقوبة بهم، وهرون لكونه لمجد الرب مُحّباً لما علم أن الرب إنما قتل بنيه تمجيداً لأسمه صمت ولم يتكلم..
إتضح بهذا القول (لا 10 : 8 – 11) أن الكهنة الذين إحترقوا كانوا قد سكروا من الخمر، ولسكرهم إشتغلوا عن نار مذبح الرب حتى إنطفأت، ولما نظروها قد إنطفأت، أحضروا ناراً غريبة، فأحرقتهم نار الرب المنحدرة من السماء0 قال الرب : إنه يجب على الكاهن أن لا يسكر من الخمر، وأن يكون أبداً يميز لشعبه الحلال من الحرام، والطاهر من النجس.. من يروم الدنو من خدمته أن لا يدنو منها وهو غائب العقل، ليس من النبيذ فقط، بل ومن كل شئ يغيّب العقل : من الفضة والغضب والشهوة وهم القنية والحزن على أمور الدنيا وما أشبه ذلك ” (1).
6- يقول الشماس الدكتور حمدي صادق ” ناداب وأبيهو أرادا تغيير الطقس الموضوع بعمل شئ مخالف.. ودائماً يكون الدافع هو : (لماذا لا أصنع خلاف السائر – لماذا لا أرتفع – لماذا لا أصنع طريقاً آخر) هي رفعة الشياطين.. قدم إبنا هرون ناراً غريبة لم يأخذاها من على مذبح المحرقة حسب الطقس0 أيضاً تعمدا تقديم البخور بعد إنتهاء الخدمة، وكان الهدف تمجيد ذواتهم – حب الظهور القاتل.. ولرغبة الرب في وضع حد سريع لهذا الإنحراف ومقاومة الشر كي لا يؤدي إلى الإنشقاقات، وما أسهل زيغان الإنسان في ذلك العهد، لذا كان الردع سريعاً، خرجت نار من عند الرب فأكلتهما، فإلهنا نار آكلة تأكل كل شر وشبه شر، وكانت روح النبؤة لدى موسى فنطق بقول الرب “ في القريبين مني أتقدَّس وأمام جميع الشعب أتمجد ” لقد أقامهما الرب لتقديسه وتمجيده أمام شعبه فما بالهما يمجدان نفسيهما بدل أن يخضعا لعمل الله فيهما، حينئذ يصيران بركة ومصدر قداسة ومجد.. وصمت هرون صمت الرضا بما تم إذ علم خطيتهما، وكان هذا درساً لرجال الكهنوت مبتدءاً من هرون ” (1).
7- حدثت حادثة مماثلة في العهد الجديد، إذ بسبب خطية كذب قد يتصوَّر البعض أنها بسيطة حلَّت دينونة الله بحنانيا وزوجته سفيرة، فمات كليهما لأنهما كذبا، ونلاحظ أنه في البدايات تكون العقوبة واضحة وشديدة بهدف تعليم الشعب السلوك بإستقامة، فحادثة ناداب وأبيهو جاءت في بداية الكهنوت اللاوي، وحادثة حنانيا وسفيرة جاءت في بداية كنيسة العهد الجديد.
8- قول ناجح المعموري أن هذه المجزرة جاءت بهدف إيقاف الثورات الداخلية التي إتسعت كثيراً وتنامت، ليس له أي سند كتابي في هذا، وكل ما حدث قبل هذه الحادثة هو إنحراف بني إسرائيل بعبادتهم العجل الذهبي (خر 32) وما ترتب على ذلك من تأديب موسى لشعبه، إذ حمـل اللاويين لقتـل كل من يتمسك بخطيته، فقتلوا ثلاثة آلاف شخص. أما حادثة إبني هرون فلم يسبقها أي نوع من التمرد، بل سبقها تكريس هرون وبنيه للكهنوت وتكفيرهم عن خطاياهم وخطايا الشعب، بل لعل سبب سقوط إبني هرون في هذه الخطية التي جرت عليهم وبال الموت أنهم شعروا بالفخر والزهو والكبرياء.
9- قول الدكتور محمد بيومي بأن التوراة تصور الله على أنه يرتاح وينتعش من رائحة الدخان، ويغضب كل الغضب إذا قُدمت له العبادة في صورة لا يرضاها، قول جانبه الصواب، لأنه الله روح بسيط يملأ الكل بلاهوته، والقول بأن دخان البخور أو رائحة الذبائح المحترمة تجعلانه ينتعش قول غير منطقي ولا يتفق مع العقل السليم، ولكن الحقيقة أن الله كأب محب يفرح ويسر بأولاده الذين يقدمون له العبادة الطاهرة النقية البعيدة عن كل مظاهر التنافس والكبرياء0 وإن كان الدكتور محمد بيومي يوقن في نفسه بأن الله لا يقبل العبادة المعوجة ولا ينظر إلى الصف الأعوج، ولا يجرؤ سيادته أن يجري أقل تغيير في طقس عبادته، فلا يمكن أن يزيد ركعة ولا ينقص ركعة في صلواته الخمس، فلماذا يعيب على التوراة التي ذكرت غضب الله على إبني هارون وحرقهما بالنار؟!.. إن التوراة لم تزور الأحداث التي سجلتها بكل أمانة وصدق بحلوها ومرها، فلماذا يصورها الناقد وكأنها تختلق وتؤلف أحداثاً لم تحدث؟!!
(1) الأب يوحنا ثابت – تفسير لسفر الأحبار منسوب إلى القديس إفرآم السرياني ص 42 – 44
(1) تفسير سفر اللاويين ص 56 ، 57