عندما سكر نوح وتعرى، ورآه ابنه حام ولم يبالي، فلعن نوح كنعان ابن حام ” وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحاً وَغَرَسَ كَرْماً. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجاً…. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ. فَقَالَ: “مَلْعُونٌ كَنْعَانُ. عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ”. [تك9/20ـ25].
فلماذا لعن نوح كنعان البريء؟ وإذا قال احد لأنه لا يقدر أن يلعن حام لان الله باركه…. نقول له ولأنه لا يقدر أن يلعن من باركه الله رغم خطئه، هل يلعن إنسان بريء لا ذنب له؟ ولماذا لم تتحقق لعنه نوح هذه، فان الكنعانيين لم يخضعوا لبني إسرائيل بقدر ما خضع بنو إسرائيل للكنعانيين؟…. ولماذا لم يلعن أبناء حام الثلاثة الآخرين الأكبر منه ” وَبَنُو حَامٍ: كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ. ” [تك10/6]
1- لقد رأى حام عورة أبيه فلم يبالي، ولم يفكر أن يستره، بل ربما سخر منه، وربما دعا أخويه ليسخرا من أبيهما أيضًا، ومع هذا فإن نوح الذي سمع بأذنيه صوت الله وهو يباركه ويبارك أولاده ” وبارك الله نوحًا وبنيه وقال لهم أثمروا وأكثروا وإملأوا الأرض” (تك 9: 1) لم يجرؤ على لعن حام، إذ كيف يجرؤ أن يلعن من باركه الله؟ بل لو أن نوحًا لعن حام للعن بهذا ثلث سكان العالم.
2- وما ذنب كنعان أن تقع عليه اللعنة وهو برئ..؟ الحقيقة أن كنعان رأى مع أبيه حام عورة جده نوح، ولم يبالي كأبيه، ولم يهتم أن يستره، والدليل على هذا قول الكتاب ” فلما استيقظ نوح من خمره علِم ما فعله به ابنه الأصغر فقال ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لأخوته” (تك 9: 24، 25) والمقصود بالابن الأصغر هنا هو حفيده كنعان، ومن المتعارف عليه في لغة الكتاب أن الحفيد يدعى ابنًا، والدليل على أن المقصود بالابن الأصغر كنعان ما يلي:
أ – أن الابن الأصغر لنوح هو يافث، وهذا لم يُلعن من قبل نوح، لا هو ولا نسله.
ب- إن الذي لُعِن هو كنعان.
وهذا يفسر لنا لماذا انصبت اللعنة على كنعان دون بقية أخوته كوش ومصرايم وفوط.
3- نطق نوح بروح النبوءة، وليس بروح التشفي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فبروح النبوءة علم نوح كيف ستكون حياة كنعان شريرة ونسله شريرًا، وتستحق اللعنة، فكان دور نوح هنا هو إعلان لعنة الله لكنعان ” فقال ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لأخوته” (تك 9: 25) ولم يقل ” أنني ألعن كنعان ” أو ” ليكن كنعان ملعونًا ” وكأن اللعنة نابعة من نوح ومنصبة على كنعان، كلاَّ. بل كل ما فعله نوح أنه أعلن وكشف ما تخبئه الأيام لكنعان، وهذا ما أكدته الأيام، إذ أوغل الكنعانيون في الشر وعبادة الأصنام، حتى قدموا أبناءهم ذبائح بشرية للآلهة الوثنية.
4- يقول عاطف عبد الغني ” فتحكي التوراة أن حام أحد أبناء نوح الثلاثة قد كشف عورة أبيه”، وهذا قول جانبه الصواب؛ لأن حام لم يكشف عورة أبيه، إنما رأى أبوه وقد سكر وتعرى فلم يبالي.
5- يقول الدكتور مصطفى محمود أن كنعان كان طفلًا حين أبصر عورة جده نوح، ويتساءل علاء أبو بكر إن كان كنعان قد فعل الفحشاء مع جده كقول أحد القساوسة الأمريكان، وهكذا يتخبط النُقَّاد، فمنهم من يدعي أن كنعان كان طفلًا ليظهر بشاعة وقسوة نوح، ومنهم من يدعي أنه فعل الفحشاء، أي أنه تعدى مرحلة الطفولة، وأيضًا ربما من قال هذا الرأي السفيه قد أراد إظهار مدى انحلال الجد نوح.
6- شعب مصر هم بنو مصرايم بن حام (تك 10: 6) ويقول القمص تادرس يعقوب ” كلمة ” مصرايم ” في العبرية مثني، لذا ظن البعض أنها دُعيت هكذا بسبب وجود الوجه البحري والوجه القبلي، أو لأن نهر النيل يقسمها إلى ضفة شرقية وأخرى غربية، لكن الرأي الأرجح أنها دُعيت ” مصر ” بالعربية من العبرية نسبة إلى مصرايم حيث سكن هو وأولاده فيها، وإن كان قد امتد نسله إلى البلاد المجاورة. أما أولاده فهم:
لوديم:.. كانوا يقطنون غربي النيل نحو ليبيا.
عناميم: يبدو أن القبيلة التي من نسله سكنت في ليبيا.
لهابيم:.. وهم أفريقيون، نشأوا أصلًا في مصر.
نفتوجيم: نسله من سكان مصر الوسطى، قرب منف..
فتروسيم: سكنوا في فتروس بصعيد مصر. كلمة ” فتروس ” تعني (أرض الجنوب).
كسلوجيم:.. وهي منطقة جبلية شرق البلسم، في حدود مصر من جهة فلسطين..”(9).
ولم تقع اللعنة على شعب مصر، إنما وقعت اللعنة على كنعان بن حام، فإذًا لم يقل الكتاب قط أن المصريين ملعونين من قبل إله إسرائيل، بل أن إله إسرائيل قد بارك شعب مصر قائلًا ” مبارك شعبي مصر” (أش 19: 25) ووعد بأنه سيكون له مذبح في وسط أرض مصر، وأن المصريين سيعرفونه وسيعبدونه ” في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخومها.. فيُعرف الرب في مصر ويعرف المصريون الربَّ في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرًا ويوفون به” (أش 19: 19، 20).
7- كثيرًا ما يعاني الأبناء من آثام وشرور أبائهم، فعندما يكون الأب فاسقًا شريرًا كسلانًا سكيرًا، فلا شك أن أبنائه سيعانون من الفاقة والألم بسببه، وعندما عبد اليهود العجل جروا وبالًا على أبناءهم كما جاء في النص القرآني ” إن الذي اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ” وقال بعض المفسرين ” أن الآية من باب حذف المضاف، والمعنى أن الذين اتخذوا العجل وباشروا عبادته سينال أولادهم إلى آخره.. ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه””(10)(11)
كما ذكرت كتب التراث الإسلامي قصة اللعنة التي أصابت نسل حام، فمثلًا جاء في كتاب البداية والنهاية جـ1 ص 108 عن حام ” وقيل بل رأى أباه نائمًا وقد بدت عورته، فلم يسترها، وسترها أخوه، فلهذا دعا عليه.. وأن يكون أولاده عبيدًا لأخوته”(12).
8- يقول أبونا أغسطينوس الأنبا بولا ” عندما يتعرض الأب لإشعاعات قد ينجب ابنًا مشوَّهًا، ولا أحد يقول ما ذنب هذا الولد المشوَّه، مع أنه يحصد ما تعرض له أبوه، كما أن الأب أيضًا يحصد نتيجة ما فعله في ابنه، إذ يصير الابن المريض أو الفاشل أو الملعون مرارة قلب لأبيه، ونلاحظ أيضًا أن كنعان لم يكن بارًا وقد حمل خطية غيره، بل كان هو ونسله يستحقون عقوبة خطاياهم أيضًا، ويرى المفسرون أن ما قاله نوح عن كنعان هو نبوءة عن مصير الكنعانيين الذين أُخذت كل أراضيهم، وصارت ملكًا لليهود في أيام مملكة داود وغيره، ويرى البعض أنها نبوءة عن احتلال اليونان والرومان أبناء يافث لأرض كنعان فيما بعد”(13).
9- يقول أحد الآباء الرهبان بدير مارمينا العامر ” لم يلعن نوح ابنه حام، بل لعن حفيده كنعان، لأن كلمة الابن الأصغر (تك 9: 24) تعني كنعان الحفيد، ويرى أوريجانوس أن كنعان رأى عورة جده فأخبر أباه حام بروح الاستهزاء، فسارع حام وأخبر أخويه ليتدبروا الأمر، وهكذا كان المسيء هو كنعان. أما تحقيق اللعنة فقد تم، ومن أمثلة ذلك أن أرضهم كانت ضمن الأراضي أن قسَّمها يشوع بالقرعة لإسرائيل (يش 13: 3 – 6) وأيضًا ” لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية” (قض 1: 28) “(14).
10- تقول الدكتورة نبيلة توما ” أن الكنعانيين خضعوا لبني إسرائيل طالما كان بنو إسرائيل يطيعون وصايا الله، ولكن لأنهم استبقوا منهم أحياء ولم ينفذوا وصية الله بتحريمهم، صاروا شركًا وفخًا لبني إسرائيل، كما كلم الله شعبه تمامًا. (أنظر يش 21: 43 – 45، 23: 6 – 16، قض 2: 13 – 15) لقد كان استعباد إسرائيل لكنعان عقوبة من الله للكنعانيين الذين استباحوا الشر، وإنما استعباد الكنعانيون لبني إسرائيل فكان من قبيل التأديب الإلهي لشعبه لأنهم خالفوا وصاياه وعبدوا آلهة الكنعانيين”(15).
11- يقول الأستاذ توفيق فرج نخلة ” لا يوجد تناقض بين لعن نوح لكنعان وبين ما جاء في سفر حزقيال {ها كل النفوس هي لي. نفس الأب كنفس الابن. كلاهما لي. النفس التي تخطئ هي تموت} (حز 18: 4) لأن الله في سفر حزقيال يتكلم عن العقاب الأبدي، وليس العقاب الزمني الذي جاء ذكره في سفر الخروج {لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيّ} (خر 20: 5)”(16).
_____
(1) البهريز جـ 1 س 269.
(2) أساطير التوراة ص 90.
(3) التوراة ص 21.
(4) المرجع السابق ص 13.
(5) التوراة ص 81 – 83 .
(6) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 74، 75.
(7) راجع أيضًا د. أحمد حجازي السقا – نقد التوراة ص 129.
(8) أثر الكتابات البابلية في المدونات الإسرائيلية ص 191.
(9) تفسير سفر التكوين ص 129، 130.
(10) الخازن جـ 1 ص 181.
(11) الهداية جـ 1 ص 18 – طُبع بمعرفة المرسلين الأمريكان سنة 1900م.
(12) راجع د. سيد القمني – الأسطورة والتراث ص 220 – 222.
(13) من إجابات أسئلة سفر التكوين.
(14) من إجابات أسئلة سفر التكوين.
(15) من إجابات أسئلة سفر التكوين.
(16) من إجابات أسئلة سفر التكوين.