أولا: الثبات في المسيح السماوي. لا يفترض القديس بولس مطلقا أن الحياة المسيحية تستوجب الموت هنا خلال الانسحاب من العالم، إنما بالإيمان يشترك المؤمن وهو في العالم في صلب السيد المسيح وقيامته، فيموت عن الإنسان العتيق ليحيا الله في المسيح.
يقول البابا أثناسيوس الرسولي: مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في”، حياتنا یا إخوتي ما هي إلا جحد للجسديات، والاستمرار بثبات فيما يخص مخلصنا وحده. كما يقول: لأن هذه هي الحياة الحقيقية التي يعيشها الإنسان في المسيح، فبالرغم من أن المؤمنين) أموات عن العالم لكنهم يعيشون كمن هم في السماء، مهتمين بالأمور العلوية. من يحب مثل هذه السكنى يقول: إن كنا نسير على الأرض لكننا نقطن في السماء”. إنه يقتني المسيح فيه ويحيا به. يقول العلامة أوريجينوس: (أن السيد المسيح يحيا فينا، لهذا عند صلبه قال لأمه بخصوص القديس يوحنا: “يا إمرأة هوذا ابنك” (يو ۱۹: ۲۹)، وهكذا كل من يصير كاملا لا يحيا لذاته بل يحيا المسيح فيه.
ثانيا: جحد الأنا أو محبة الذات. يقول العلامة أوريجينوس: التعبير “أحيا لا أنا” يصدر عن صوت من يجحد نفسه؛ يلبس المسيح ويلقي ذاته جانبا، وذلك لكي يسكن المسيح فيه بكونه البر والحكمة والقداسة وسلامنا (1 كو 1: 30؛ أف 2: 14)، وقوة الله، الذي يعمل كل شيء فيه”. ويقول القديس أغسطينوس: إن كان الإنسان بحبه لذاته يصير مفقودا، فبالتأكيد بإنكاره ذاته يوجد!… لينسحب الإنسان من ذاته لا لأمور زمنية وإنما لكي يلتصق بالله”.
ثالثا: تعبير عن المشاركة في الحب الإلهي. إذ يتحدث الرسول بولس عن حب الكنيسة لمسيحها يقول: “كما هو مكتوب: إننا من أجلك مات كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح” (رو ۸: ۳۹). هذا هو صوت الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور التي تقبل الدخول في الطريق الشهادة لله حتى الموت، تقبل شركة لآلام المسيح بسرور، فنشتهي أن تحب كالغنم المقدم لأجله للذبح كما سيق هو كشاة للذبح (إش ۵۳: ۷)… تمارس الموت الاختياري كل يوم، إن لم يكن بسفك الدم فبالجهاد الروحي والبذل والعطاء لكل أحد حتى لغير المؤمنين لأجل الله محب البشر!
يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي: (أنا كاهن سيدي يسوع المسيح، وله أقم الذبيحة كل يوم، وأرغب أن أقصيم حياتي ذبيحة كما قدم حياته ذبيحة حبا في. وأيضا: لتأتي على كل هذه النار والصليب، ومجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر… لتنصب علي كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح؟. لماذا أسلم نفسي إلى الموت؟! إلى النار، إلى السيف، إلى الوحوش الضارية؟!… القريب من السيف هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وأنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه”. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: اهو يجعلهم ذبيحة وتقدمة (يومية) دون موت. وأيضا: إمن الممكن أن تمات عدة مرات في يوم واحي؛ لأنه من كان مستعدا على الدوام أن يموت يحفظ مكافأته ليستلمها كاملة.
كما يقول الأب دوروثيؤس من غزة: القديسون الذين يقيمون أنفسهم (ذبيحة) لله إنما يقمون أنفسهم أحياء كل يوم. لتقم أنفسنا (ذبائح)، ولنمت عن ذواتنا لأجل المسيح إلهنا. كيف وضعوا أنفسهم للموت؟ بأن كفوا عن محبة العالم وما فيه (1 يو 3: 15)… عن هذا يقول الرسول: “الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل 5: ۲۶). هكذا وضع القديسون أنفسهم للموت. ويقول: يليق بنا أن تقم له التقدمة التي يفرح ويسر بها في يوم قيامته مادام لم يعد يسر بالذبائح الحيوانية. يعطينا القديس غريغوريوس الإجابة عن السبب الذي لأجله لم يعد ير بالذبائح الحيوانية، وهو قول الرسول بولس: “قموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية” (رو ۱۲: ۱). لكن كيف تقم أجسادنا ذبيحة حية لله؟ حين لا نتبع شهواتنا الشريرة وأفكارنا الذاتية، بل نسير في الروح، ولا نكمل شهوة الجسد (غل 5: 16)… وذلك بأن نقمع شهوات أعضائنا الجسدية.
رابعا: الدخول إلى موكب النصرة. لم تعد الآلام والضيقات تحطم النفس، بل علة الدخول إلى موكب الغلبة والنصرة تحت قيادة المسيح يسوع المتألم والمصلوب.
خامسا: إماتة الشهوات الرديئة. يقول القديس جيروم: لهذا وأنتم راقدون على فراشكم، ردوا المرة تلو المرة: “في الليل طلبت من ثيبه نفسي” (نش ۳: ۱). ويقول الرسول: “أميتوا أعضاء كم التي على الأرض” (كو 3: 5)، لأنه هو نفسه فعل ذلك، لهذا استطاع أن يقول في ثقة: “أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في” (غل ۲: ۲۰) فالذي يميت أعضاءه ويشعر أنه يسير في عرض المبنى، لا يخشى أن يقول: “صرت كزق في العاصف” (راجع مز ۱۱۹: ۸۳). مهما كان في داخلي من رطوبة الشهوة فقد جف في”، وأيضا: “ركبتاي ارتعشتا من الصوم، نسيت أن آكل خبزي، وبسبب صوت تأوهي التصقت عظامي بجلدي” (راجع مز 109: 24).
كما يقول القديس إيرينيؤس : هذا نفسه إذن ما جاء المسيخ ليحييه، فكما في آدم تموت جميعا، كما من الطبيعة الحيوانية، هكذا نحن في المسيح نحيا جميعا، كروحيين، فلا نتخلى عن صنعة يدي الله بل نترك شهوات الجسد ونقبل الروح القدس. كما يقول الرسول في الرسالة إلى كولوسي: أميتوا أعضاء كم التي على الأرض، والتي كما يشرحها هو نفسه الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع الذي هو عبادة الأصنام”. ترك هذه الأمور هو ما يكرز به الرسول ويقول. إن الذين يمارسونها إنما هم جسدانيون كما من لحم ودم فقط، ولا يمكنهم أن يرثوا ملكوت السماوات. إذ يمثل نفوسهم إلى ما هو أسوأ بانحدارها إلى الشهوات الترابية ومن ثم فهم يوصفون بأنهم أيضا ترابيون، تلك الأمور الرديئة التي عندما يحثنا الرسول أن نتركها – يقول في ذات الرسالة “تخلعون الإنسان العتيق مع كل أعماله” (كو 3: 9)، لكنه حينما قال ذلك لم يزل بالشكل القديم للإنسان، وإلا صار من غير اللائق أن نتخلص من حياتنا بالانتحار!”
يقول القديس أمبروسيوس: لما هو الموت في الحقيقة إلا دفن الرذائل وإحياء الفضائل؟ لهذا كتب: “فلتمت (ترحل) نفسي موت الأبرار، “أي” فلتدفن معهم (عد ۱۰ : ۲۳ ؛ كو ۱۲ : ۲ )، لدفن خطاياها وتلبس نعمة الأبرار الذين يحملون في أجسادهم سمات موت المسيح” (۲ کو ۱۰ : 4 ) وأيضا يحملون تلك السمات في نفوسهم “. النفس التي أوشكت أن تقبل الكلمة اللوغوس، يجدر بها أن تموت عن العالم (غل 14 : 6 ) وتدفن في المسيح (رو 4 : 6، كو ۱۲ :۲ )، فلا تجد إلا المسيح، فهذا هو الاستقبال اللائق الذي يطلبه منها لنفسه.
ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: كيف تقدرون أن تطيعوا بولس الذي يحتكم على تقديم أعضائكم ذبيحة حية مقدسة مرضية إن كنتم تمتثلون بهذا العالم ولا تتشكلون بتجديد أذهانكم، عندما لا تسلكون في جدة الحياة بل تبقون سالكين في روتين الإنسان العتيق؟
كما يقول القديس جيروم: إليتنا ننصت إلى التصريح الذي يعلنه حزقيال المدعو “ابن آدم” (حز ففي حين المقبل تفن سال ۲: ۱) وذلك بخصوص فضيلة ذاك الذي بحق هو ابن الإنسان، أي الإنسان المسيحي؛ إذ يقول: “وأخذكم من بين الأمم… وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاستكم… وأعطيكم قلبا جديدا وأجعل روحا جديدا في داخلكم” (حز 36: 24-۲۹)… لذلك فإن النشيد الذي ننشده هو تسبحة جديدة (رؤ 14: 3)؛ ننزع الإنسان القديم (أف 4: ۲۲)، ولا نسلك بعتق الحرف لكن في جدة الروح رو ۷: 6. هذا هو الحجر الجديد الذي كتب عليه اسم جديد “لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه” (رؤ 2: 17).
سادسا: التمتع بفيض من الأكاليل. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله من أجل فيض حبه علينا، يسمح للمؤمن بميتات كثيرة لكي ينال أكاليل كثيرة. الأكاليل التي ننالها ليس حسب طول عمر الإنسان المجاهد، وإنما حسب قبوله الفيض من الميتات كل يوم. هذه الأكاليل ننالها لأن الميتات التي نقبلها حسب ذبيحة مقبولة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: من أجلك نمات اليوم كله” (رو ۸: ۳۶)… من الواضح أننا سنرحل ومعنا أكاليل كثيرة إذ نعيش أياما كثيرة، أو بالحري ننال أكاليل أكثر من الأيام بكثير، إذ يمكن أن نموت في يوم واحد لا مرة ولا مرتين بل مرات كثيرة. لأنه من كان مستعدا لهذا يبقى ينال مكافأة كاملة على الدوام. وأيضا يقول: القد أظهر الرسول) أيضا أن أجسادنا قد صارت ذبيحة، فيليق بنا ألا نرتبك ولا نضطرب عندما يأمر الله بتقديمها.
سابعا: نصير أكثر من غالبين. ماذا يعني أننا أكثر من غالبين؟
ا. أن المكائد التي توضع لتحطيمنا تهبنا حياة النصرة.
ب. نقبل الإماتة دون تعب ومشقة.
ج. نتحدى المقاومين لنا، لا بمقاومتنا لهم، وإنما بأن نصير في عيني الله أعظم من الذين يسيئون إلينا بالضرب أو الطرد أو الاضطهاد. فإنهم حتى إن قتلونا يحسب عملهم هذا موجه ضد الله القدير، فيعيشون في صراع ومرارة.
في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: لأنه بالحقيقة الأمر عجيب، ليس فقط أننا غالبون وإنما غالبون بذات الأمور التي وضعت كمكائد لنا. نحن لسنا غالبين فحسب وإنما “أكثر من غالبين”، إذ نمارس الغلبة بسهولة بلا تعب ولا مشقة، لأن الله يصارع بجوارنا، فلا تشك، فإننا وإن ربنا حسب أفضل من الضاربين، وإن طردنا نغلب الذين يضطهدونا، وإن متنا يبقى الأحياء الذين يقتلوننا) في صراع… أنهم لا يحاربون البشر بل يقاومون القدير الذي لا يغلب! ويقول القديس هيبوليتس:
العبارة “ذبحت ذبحها” (أم ۹: ۲) تعبر عن الشهداء في كل مدينة حيث يذبحون يوميا من أجل الحق بواسطة غير المؤمنين، صارخين بصوت عالي: “إننا من أجلك مات كل النهار، قد حبيبنا مثل غنم للذبح”. ويقول الشهيد كبريانوس: ليس شيء من هذه الأمور يقدر أن يفصل المؤمنين أو ينزع الملتصقين بجسده ودمه… الاضطهاد هو اختبار للقلب وفحص له. الله يسمح به لنا لكي تمص ونتزكى، إذ يود أن يزكي شعبه على الدوام، لكن معونته لا تقصر عن مساعدة المؤمنين في كل وقت وسط التجارب.
ويقول القديس إيرينيؤس: (هنا تعبير “كل النهار” يعني كل الزمان الذي فيه تحتمل اضطهادات وتذبح فيه كغنم. هذا النهار لا يعني نهارا يحتوي على اثنتي عشر ساعة إنما كل الزمان الذي فيه يتألم المؤمنون في المسيح يموتون لأجله “.
ثامنا: الاتحاد العائلي مع الرسل. يكشف الرسول بولس عن بركة “الإماتة”، موضحا أن المؤمنين يمارسون حياة البذل والإماتة مع بقية الرسل. فممارسة المؤمن لحياة الإماتة” تؤله للدخول في علاقة أسرية مع الرسل، إذ يقول الرسول: “إنكم في قلوبنا لنموت معكم ونعيش معكم” (۲ کو 7: 3) في استطراد يتحدث الرسول بولس مع شعبه ليكشف لهم عن مفهوم الحب الأبوي الصادق، فهو مستعد أن يموت معهم ويعيش معهم. هذا الحب لا يقوم على عواطف بشرية مجردة، وإنما على شهوة الالتقاء معا كأسرة واحدة في حضن الله ما يفرح قلب الرسول بولس هو توبتهم وخلاصهم وتمتعهم بالمجد الأبدي. تعزي الرسول بتوبة شعبة عندما سمع من تيطس عن توبتهم وتعزيات الله لهم. لقد فرح تيطس نفسه إذ استراحت نفسه بهم (۲ کو ۱۳۰۷) وفرح معه وبه الرسول بولس. راحة الخادم في تعزيات شعبة الإلهية بالتوبة الصادقة.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: إنه يظهر حنا عظيما حتى حين يعامل باستخفاف. إنه يختار أن يموت وأن يحيا معهم… إن حل الخطر، فمن أجلكم مستعد أن أحتمل كل شيء. ليس الموت ولا الحياة ذات قيمة في ذاتهما عندي، فمن أجلكم أفضل الموت عن الحياة والحياة عن الموت.
ويقول القديس أمبروسيوس: الإنسان الذي له روح الكهنوت وفكره هو ذاك الذي بكونه راعيا صالحا يتقدم للموت من أجل قطيع الرب بروح ورعة. بهذا يكون (كموسى) في كسر شوكة الموت… الحب هو العضد الذي يزكيه، مقدما نفسه للموت من أجل مقاوميه”.
تاسعًا: التمتع ببر المسيح: مات السيد المسيح على الصليب، كي نموت معه فنحيا الرب بب. يقول الرسول بطرس: “الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر الذي بجلدته شفيتم” (1 بط ۲: 24).
يكشف لنا الرسول مفهوم آلام الصليب إنها ليست مجرد شجاعة وقدرة على الاحتمال، بل أساسها حب ونبذل، إذ أراد بجلدته أي جراحاته أن يشفي جراحاتنا، فأحنى ظهره باختياره، ليحمل بطريقة سرية خطايانا في جسده، إذ القدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين” (عب ۲۸ : ۹ ). “إنه سكب للموت نفسه وأحصي مع آثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين” (إش 53: ۱۲). غاية هذا العمل الخلاصي هو اتحادنا معه، وتمتعنا ببر.
القمص تادرس يعقوب ملطي
أولا: الثبات في المسيح السماوي. لا يفترض القديس بولس مطلقا أن الحياة المسيحية تستوجب الموت هنا خلال الانسحاب من العالم، إنما بالإيمان يشترك المؤمن وهو في العالم في صلب السيد المسيح وقيامته، فيموت عن الإنسان العتيق ليحيا الله في المسيح.
يقول البابا أثناسيوس الرسولي: مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في”، حياتنا یا إخوتي ما هي إلا جحد للجسديات، والاستمرار بثبات فيما يخص مخلصنا وحده. كما يقول: لأن هذه هي الحياة الحقيقية التي يعيشها الإنسان في المسيح، فبالرغم من أن المؤمنين) أموات عن العالم لكنهم يعيشون كمن هم في السماء، مهتمين بالأمور العلوية. من يحب مثل هذه السكنى يقول: إن كنا نسير على الأرض لكننا نقطن في السماء”. إنه يقتني المسيح فيه ويحيا به. يقول العلامة أوريجينوس: (أن السيد المسيح يحيا فينا، لهذا عند صلبه قال لأمه بخصوص القديس يوحنا: “يا إمرأة هوذا ابنك” (يو ۱۹: ۲۹)، وهكذا كل من يصير كاملا لا يحيا لذاته بل يحيا المسيح فيه.
ثانيا: جحد الأنا أو محبة الذات. يقول العلامة أوريجينوس: التعبير “أحيا لا أنا” يصدر عن صوت من يجحد نفسه؛ يلبس المسيح ويلقي ذاته جانبا، وذلك لكي يسكن المسيح فيه بكونه البر والحكمة والقداسة وسلامنا (1 كو 1: 30؛ أف 2: 14)، وقوة الله، الذي يعمل كل شيء فيه”. ويقول القديس أغسطينوس: إن كان الإنسان بحبه لذاته يصير مفقودا، فبالتأكيد بإنكاره ذاته يوجد!… لينسحب الإنسان من ذاته لا لأمور زمنية وإنما لكي يلتصق بالله”.
ثالثا: تعبير عن المشاركة في الحب الإلهي. إذ يتحدث الرسول بولس عن حب الكنيسة لمسيحها يقول: “كما هو مكتوب: إننا من أجلك مات كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح” (رو ۸: ۳۹). هذا هو صوت الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور التي تقبل الدخول في الطريق الشهادة لله حتى الموت، تقبل شركة لآلام المسيح بسرور، فنشتهي أن تحب كالغنم المقدم لأجله للذبح كما سيق هو كشاة للذبح (إش ۵۳: ۷)… تمارس الموت الاختياري كل يوم، إن لم يكن بسفك الدم فبالجهاد الروحي والبذل والعطاء لكل أحد حتى لغير المؤمنين لأجل الله محب البشر!
يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي: (أنا كاهن سيدي يسوع المسيح، وله أقم الذبيحة كل يوم، وأرغب أن أقصيم حياتي ذبيحة كما قدم حياته ذبيحة حبا في. وأيضا: لتأتي على كل هذه النار والصليب، ومجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر… لتنصب علي كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح؟. لماذا أسلم نفسي إلى الموت؟! إلى النار، إلى السيف، إلى الوحوش الضارية؟!… القريب من السيف هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وأنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه”. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: اهو يجعلهم ذبيحة وتقدمة (يومية) دون موت. وأيضا: إمن الممكن أن تمات عدة مرات في يوم واحي؛ لأنه من كان مستعدا على الدوام أن يموت يحفظ مكافأته ليستلمها كاملة.
كما يقول الأب دوروثيؤس من غزة: القديسون الذين يقيمون أنفسهم (ذبيحة) لله إنما يقمون أنفسهم أحياء كل يوم. لتقم أنفسنا (ذبائح)، ولنمت عن ذواتنا لأجل المسيح إلهنا. كيف وضعوا أنفسهم للموت؟ بأن كفوا عن محبة العالم وما فيه (1 يو 3: 15)… عن هذا يقول الرسول: “الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل 5: ۲۶). هكذا وضع القديسون أنفسهم للموت. ويقول: يليق بنا أن تقم له التقدمة التي يفرح ويسر بها في يوم قيامته مادام لم يعد يسر بالذبائح الحيوانية. يعطينا القديس غريغوريوس الإجابة عن السبب الذي لأجله لم يعد ير بالذبائح الحيوانية، وهو قول الرسول بولس: “قموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية” (رو ۱۲: ۱). لكن كيف تقم أجسادنا ذبيحة حية لله؟ حين لا نتبع شهواتنا الشريرة وأفكارنا الذاتية، بل نسير في الروح، ولا نكمل شهوة الجسد (غل 5: 16)… وذلك بأن نقمع شهوات أعضائنا الجسدية.
رابعا: الدخول إلى موكب النصرة. لم تعد الآلام والضيقات تحطم النفس، بل علة الدخول إلى موكب الغلبة والنصرة تحت قيادة المسيح يسوع المتألم والمصلوب.
خامسا: إماتة الشهوات الرديئة. يقول القديس جيروم: لهذا وأنتم راقدون على فراشكم، ردوا المرة تلو المرة: “في الليل طلبت من ثيبه نفسي” (نش ۳: ۱). ويقول الرسول: “أميتوا أعضاء كم التي على الأرض” (كو 3: 5)، لأنه هو نفسه فعل ذلك، لهذا استطاع أن يقول في ثقة: “أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في” (غل ۲: ۲۰) فالذي يميت أعضاءه ويشعر أنه يسير في عرض المبنى، لا يخشى أن يقول: “صرت كزق في العاصف” (راجع مز ۱۱۹: ۸۳). مهما كان في داخلي من رطوبة الشهوة فقد جف في”، وأيضا: “ركبتاي ارتعشتا من الصوم، نسيت أن آكل خبزي، وبسبب صوت تأوهي التصقت عظامي بجلدي” (راجع مز 109: 24).
كما يقول القديس إيرينيؤس : هذا نفسه إذن ما جاء المسيخ ليحييه، فكما في آدم تموت جميعا، كما من الطبيعة الحيوانية، هكذا نحن في المسيح نحيا جميعا، كروحيين، فلا نتخلى عن صنعة يدي الله بل نترك شهوات الجسد ونقبل الروح القدس. كما يقول الرسول في الرسالة إلى كولوسي: أميتوا أعضاء كم التي على الأرض، والتي كما يشرحها هو نفسه الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع الذي هو عبادة الأصنام”. ترك هذه الأمور هو ما يكرز به الرسول ويقول. إن الذين يمارسونها إنما هم جسدانيون كما من لحم ودم فقط، ولا يمكنهم أن يرثوا ملكوت السماوات. إذ يمثل نفوسهم إلى ما هو أسوأ بانحدارها إلى الشهوات الترابية ومن ثم فهم يوصفون بأنهم أيضا ترابيون، تلك الأمور الرديئة التي عندما يحثنا الرسول أن نتركها – يقول في ذات الرسالة “تخلعون الإنسان العتيق مع كل أعماله” (كو 3: 9)، لكنه حينما قال ذلك لم يزل بالشكل القديم للإنسان، وإلا صار من غير اللائق أن نتخلص من حياتنا بالانتحار!”
يقول القديس أمبروسيوس: لما هو الموت في الحقيقة إلا دفن الرذائل وإحياء الفضائل؟ لهذا كتب: “فلتمت (ترحل) نفسي موت الأبرار، “أي” فلتدفن معهم (عد ۱۰ : ۲۳ ؛ كو ۱۲ : ۲ )، لدفن خطاياها وتلبس نعمة الأبرار الذين يحملون في أجسادهم سمات موت المسيح” (۲ کو ۱۰ : 4 ) وأيضا يحملون تلك السمات في نفوسهم “. النفس التي أوشكت أن تقبل الكلمة اللوغوس، يجدر بها أن تموت عن العالم (غل 14 : 6 ) وتدفن في المسيح (رو 4 : 6، كو ۱۲ :۲ )، فلا تجد إلا المسيح، فهذا هو الاستقبال اللائق الذي يطلبه منها لنفسه.
ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: كيف تقدرون أن تطيعوا بولس الذي يحتكم على تقديم أعضائكم ذبيحة حية مقدسة مرضية إن كنتم تمتثلون بهذا العالم ولا تتشكلون بتجديد أذهانكم، عندما لا تسلكون في جدة الحياة بل تبقون سالكين في روتين الإنسان العتيق؟
كما يقول القديس جيروم: إليتنا ننصت إلى التصريح الذي يعلنه حزقيال المدعو “ابن آدم” (حز ففي حين المقبل تفن سال ۲: ۱) وذلك بخصوص فضيلة ذاك الذي بحق هو ابن الإنسان، أي الإنسان المسيحي؛ إذ يقول: “وأخذكم من بين الأمم… وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاستكم… وأعطيكم قلبا جديدا وأجعل روحا جديدا في داخلكم” (حز 36: 24-۲۹)… لذلك فإن النشيد الذي ننشده هو تسبحة جديدة (رؤ 14: 3)؛ ننزع الإنسان القديم (أف 4: ۲۲)، ولا نسلك بعتق الحرف لكن في جدة الروح رو ۷: 6. هذا هو الحجر الجديد الذي كتب عليه اسم جديد “لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه” (رؤ 2: 17).
سادسا: التمتع بفيض من الأكاليل. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله من أجل فيض حبه علينا، يسمح للمؤمن بميتات كثيرة لكي ينال أكاليل كثيرة. الأكاليل التي ننالها ليس حسب طول عمر الإنسان المجاهد، وإنما حسب قبوله الفيض من الميتات كل يوم. هذه الأكاليل ننالها لأن الميتات التي نقبلها حسب ذبيحة مقبولة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: من أجلك نمات اليوم كله” (رو ۸: ۳۶)… من الواضح أننا سنرحل ومعنا أكاليل كثيرة إذ نعيش أياما كثيرة، أو بالحري ننال أكاليل أكثر من الأيام بكثير، إذ يمكن أن نموت في يوم واحد لا مرة ولا مرتين بل مرات كثيرة. لأنه من كان مستعدا لهذا يبقى ينال مكافأة كاملة على الدوام. وأيضا يقول: القد أظهر الرسول) أيضا أن أجسادنا قد صارت ذبيحة، فيليق بنا ألا نرتبك ولا نضطرب عندما يأمر الله بتقديمها.
سابعا: نصير أكثر من غالبين. ماذا يعني أننا أكثر من غالبين؟
ا. أن المكائد التي توضع لتحطيمنا تهبنا حياة النصرة.
ب. نقبل الإماتة دون تعب ومشقة.
ج. نتحدى المقاومين لنا، لا بمقاومتنا لهم، وإنما بأن نصير في عيني الله أعظم من الذين يسيئون إلينا بالضرب أو الطرد أو الاضطهاد. فإنهم حتى إن قتلونا يحسب عملهم هذا موجه ضد الله القدير، فيعيشون في صراع ومرارة.
في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: لأنه بالحقيقة الأمر عجيب، ليس فقط أننا غالبون وإنما غالبون بذات الأمور التي وضعت كمكائد لنا. نحن لسنا غالبين فحسب وإنما “أكثر من غالبين”، إذ نمارس الغلبة بسهولة بلا تعب ولا مشقة، لأن الله يصارع بجوارنا، فلا تشك، فإننا وإن ربنا حسب أفضل من الضاربين، وإن طردنا نغلب الذين يضطهدونا، وإن متنا يبقى الأحياء الذين يقتلوننا) في صراع… أنهم لا يحاربون البشر بل يقاومون القدير الذي لا يغلب! ويقول القديس هيبوليتس:
العبارة “ذبحت ذبحها” (أم ۹: ۲) تعبر عن الشهداء في كل مدينة حيث يذبحون يوميا من أجل الحق بواسطة غير المؤمنين، صارخين بصوت عالي: “إننا من أجلك مات كل النهار، قد حبيبنا مثل غنم للذبح”. ويقول الشهيد كبريانوس: ليس شيء من هذه الأمور يقدر أن يفصل المؤمنين أو ينزع الملتصقين بجسده ودمه… الاضطهاد هو اختبار للقلب وفحص له. الله يسمح به لنا لكي تمص ونتزكى، إذ يود أن يزكي شعبه على الدوام، لكن معونته لا تقصر عن مساعدة المؤمنين في كل وقت وسط التجارب.
ويقول القديس إيرينيؤس: (هنا تعبير “كل النهار” يعني كل الزمان الذي فيه تحتمل اضطهادات وتذبح فيه كغنم. هذا النهار لا يعني نهارا يحتوي على اثنتي عشر ساعة إنما كل الزمان الذي فيه يتألم المؤمنون في المسيح يموتون لأجله “.
ثامنا: الاتحاد العائلي مع الرسل. يكشف الرسول بولس عن بركة “الإماتة”، موضحا أن المؤمنين يمارسون حياة البذل والإماتة مع بقية الرسل. فممارسة المؤمن لحياة الإماتة” تؤله للدخول في علاقة أسرية مع الرسل، إذ يقول الرسول: “إنكم في قلوبنا لنموت معكم ونعيش معكم” (۲ کو 7: 3) في استطراد يتحدث الرسول بولس مع شعبه ليكشف لهم عن مفهوم الحب الأبوي الصادق، فهو مستعد أن يموت معهم ويعيش معهم. هذا الحب لا يقوم على عواطف بشرية مجردة، وإنما على شهوة الالتقاء معا كأسرة واحدة في حضن الله ما يفرح قلب الرسول بولس هو توبتهم وخلاصهم وتمتعهم بالمجد الأبدي. تعزي الرسول بتوبة شعبة عندما سمع من تيطس عن توبتهم وتعزيات الله لهم. لقد فرح تيطس نفسه إذ استراحت نفسه بهم (۲ کو ۱۳۰۷) وفرح معه وبه الرسول بولس. راحة الخادم في تعزيات شعبة الإلهية بالتوبة الصادقة.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: إنه يظهر حنا عظيما حتى حين يعامل باستخفاف. إنه يختار أن يموت وأن يحيا معهم… إن حل الخطر، فمن أجلكم مستعد أن أحتمل كل شيء. ليس الموت ولا الحياة ذات قيمة في ذاتهما عندي، فمن أجلكم أفضل الموت عن الحياة والحياة عن الموت.
ويقول القديس أمبروسيوس: الإنسان الذي له روح الكهنوت وفكره هو ذاك الذي بكونه راعيا صالحا يتقدم للموت من أجل قطيع الرب بروح ورعة. بهذا يكون (كموسى) في كسر شوكة الموت… الحب هو العضد الذي يزكيه، مقدما نفسه للموت من أجل مقاوميه”.
تاسعًا: التمتع ببر المسيح: مات السيد المسيح على الصليب، كي نموت معه فنحيا الرب بب. يقول الرسول بطرس: “الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر الذي بجلدته شفيتم” (1 بط ۲: 24).
يكشف لنا الرسول مفهوم آلام الصليب إنها ليست مجرد شجاعة وقدرة على الاحتمال، بل أساسها حب ونبذل، إذ أراد بجلدته أي جراحاته أن يشفي جراحاتنا، فأحنى ظهره باختياره، ليحمل بطريقة سرية خطايانا في جسده، إذ القدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين” (عب ۲۸ : ۹ ). “إنه سكب للموت نفسه وأحصي مع آثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين” (إش 53: ۱۲). غاية هذا العمل الخلاصي هو اتحادنا معه، وتمتعنا ببر.