يليق بنا أن نسجل الظروف التي عاشت فيها الكنيسة القبطية منذ نشأتها حتى العصر الحالي الإدراك حقيقة تعليمها الكنسي، ولكي ننتفع من خبرتها الطويلة خلال الواحد وعشرين قرئا.
لم يفارق الاضطهاد الكنيسة القبطية منذ نشأتها في منتصف القرن الأول حتى هذا القرن الحالي. لقد تعجبت مدام بوتشر أستاذة التاريخ بجامعة أكسفورد، إذ قالت إن بقاء الأقباط إلى يومنا هذا يعتبر أحد عجائب الدنيا.
تطلع إشعياء النبي في القرن الثامن ق.م. إلى كنيسة الأقباط، وسجل بروح النبوة أروع صورة النشأتها.
لقد عانت الكنيسة الكثير من الاضطهادات حتى من المسيحيين أنفسهم حين كان يضطهدها إمبراطور القسطنطينية ويعين لها بطريركا ويعطيه السلطان كوالي لا يكف عن ممارسة الاضطهاد و هم حتى على الرهبان في الأديرة والصحاري ليوقعوا على طومس لاون.
حقا إننا نشكر الله الذي سمح لمصرنا التي تنبأ عنها إشعياء النبي أن تمر بفترات تبدو غاية في المرارة ولمدد طويلة، لكنها قدمت لنا الفرص أن نسبح المصلوب قائلين مع الرسول: “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في” (غل ۲ : ۲۰ ).
لقد قدم لي أحد الأحباء خطابا أرسله شخص إلى بعض الشركات والأشخاص القادرين بأمريكا، جاء فيه أنه يطلب المساهمة في العمل الكرازي الذي سيقوم به في زيارته إلى مصر، وحسب نفسه أنه سيقدم المسيح للأقباط الذين قدموا شهداء لكن كنيستهم ميتة لا تعرف المسيح (في نظره)! لسنا ندافع عن كنيستنا، فيوم الرب ليس ببعيد لنرى أفواج الشهداء البسطاء والرعاة واللاهوتيين الأتقياء كعروس سماوية تجلس عن يمين ملك الملوك!
إن الضيق الذي حل على الكنيسة عبر العصور ساهم في إبراز الإيمان الحي والتعاليم المستقيمة وعمل الثالوث القدوس في الكنيسة دون انحراف نحو أمجاد العالم والانشغال بالسياسات الزمنية، بل التركيز على انتظار مجيء الرب على السحاب.
المرحلة الأولى: الكاتیشیزم في العصر الرسولي
الحدث الرئيسي في القرن الأول هو كرازة الإنجيلي مرقس الرسول في مصر التي باركها ربنا يسوع والتجأ إليها من وجه هيرودس (مت ۲: ۱۳). قام القديس مرقس الرسول بسیامة أنيانوس أسقفا على الإسكندرية. كان ما يشغل قلب الكنيسة الكرازة بإنجيل الخلاص، والكشف عن الحب الإلهي لكل بني البشر، وليس لشعب معين وحده.
بدأت المسيحية في مصر بحركة بسيطة لكنها عميقة للغاية. فقد صرخ إنيانوس الإسكافي: “یا الله الواحد”، عندما اخترق المخراز يده وهو يصلح حذاء القديس مرقس. أبرأ القديس مرقس الرسول يده باسم ربنا يسوع المسيح. بهذا شهد الله الواحد الذي آمن به إنيانوس دون أن يعرفه. وتحدث معه القديس مرقس عن الله الذي يشفي ليس فقط أجسادنا بل وطبيعتنا البشرية بيسوع المسيح، كلمته المتجسد، واعتنق إنيانوس المسيحية، وسامه مار مرقس أول أسقف للإسكندرية.
يليق بنا هنا أن نلاحظ أمرين:
أ. لم يهاجم القديس مرقس الديانة المصرية الوثنية آنذاك، لكنه على العكس استخدم كلمات إنيانوس: “يا الله الواحد” كنقطة بداية للكرازة بالحق الإنجيلي. وموقفه هذا يشبه ما صنعه بولس الرسول في أثينا، إذ قال: “فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنا أنادي لكم به” (أع ۲۳ : ۱۷)، كما قال: “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بعض شعرائكم أيضا لأننا أيضا ذريته” (أع ۲۸ : ۱۷). وقد سار آباء الإسكندرية على نفس خطوات القديس مرقس، فكرزوا بالحق الإنجيلي غير المتغير للمصريين وأصحاب الثقافة الهيلينية (اليونانية) بالإسكندرية؛ فكانوا يتحدثون ببساطة للبسطاء، وبلغة الفلسفة للفلاسفة..
ب. استخدم القديس مرقس حادثة شفاء جرح إنيانوس باسم المسيح يسوع كنقطة بداية ليكرز بالإنجيل.
هكذا لم يظهر الله كفكرة مجردة يعتقد بها الإنسان، وإنما يعلن عنه كمخلص يشفي البشرية كلها ويخلصها. هذا هو المبدأ الأساسي للاهوت السكندري حتى يومنا هذا، فهو لاهوت خلاصي soteriology. إننا نعرف الله ليس من خلال مناقشات نظرية جافة، وإنما من خلال أعماله الخلاصية، حيث يهبنا المعرفة الجديدة والحياة الجديدة والخلود.
بذر بحق القديس مرقس في تربتنا اللاهوتية البذرة التي أنتجت ثمارا على مر العصور، إحدى هذه الثمار العلاقة الوثيقة بين المعرفة اللاهوتية والخلاص العملي. فالله يمنحنا المعرفة، ولكن ليس بمعزل عن الخلاص، يظهر هذا الفكر بوضوح في لاهوتيات القديس إكليمنضس السكندري الذي يقدم لنا يسوع المسيح كمعلم إلهي Paedagogus وكطبيب، قائلا عنه: (الطبيب الواهب الشفاء الكلي للبشرية جمعاء.] بمعنى آخر المعرفة الإلهية عند القديس إكليمنضس لا تنفصل عن خلاصنا، وقد كتب بصراحة هكذا: إنها مشيئة الله أن نبلغ معرفة الله، التي هي سبيلنا للخلود”.
كما كتب: إصار الكلمة إنسانا لكي تتعلموا كيف يصير الإنسان إلها.۲] بهذا ندرك لماذا لم يتحدث معنا كلمة الله المتجسد بألفاظ لاهوتية، ولم يضع لنا صيغة إيمان ثالوثي، إنما في بساطة أعلن لنا عن الثالوث القدوس خلال أعماله الخلاصية.
۲. إذ كانت مدرسة الإسكندرية الفلسفية التي أنشأها بطليموس قائمة، مع تأسيس أكبر مكتبة في الشرق، ووجود مدارس يهودية، كان لزاما أن تؤسس مدرسة الإسكندرية المسيحية. يرى القديس چیروم أن القديس مار مرقس هو مؤسسها، ويعتبرها كثير من الدارسين أول مدرسة مسيحية في العالم.
المرحلة الثانية: ازدهار مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني
تكشف كتابات العلامة أثيناغوراس والقديسين بنتينوس وإكليمنضس والعلامة أوريجينوس عمداء مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني عما كان يشغل برنامج المدرسة وتعاليمها وهي:
الاهتمام بتفسير كلمة الله، فقد قام بنتينوس بتفسير الكتاب المقدس كله، وإن كان لم يصلنا منه إلا بعض المقتطفات القليلة.
ويعتبر العلامة أوريجينوس أمير شراح الكتاب المقدس، وهو يقسم طرق التفسير إلى:
التفسير الرمزي، وقد بالغ فيه حتى حسب كل كلمة في الكتاب المقدس لها تفسيرها الرمزي.
التفسير الأخلاقي، حيث يقودنا الكتاب المقدس إلى السلوك في المسيح يسوع.
التفسير الحرفي أو التاريخي.
وإني أرجو الحديث عن هذه المناهج الثلاثة للتفسير، وخطورة المبالغة في أي منهج منها .
التماس (أثيناغوراس) عن المسيحيين، حيث قام بالدفاع عن الاتهامات الموجهة ضد المسيحيين. في دفاعه أبرز سمو الإيمان المسيحي، وكأنه حسب دفاعه فرصة للكرازة للإمبراطور مرقس أوريليوس أنطونيوس (۱۹۱-۱۸۰م) وشريكه في الحكم ابنه کومودوس Commodus.
في مقاله عن “قيامة الموتی” استخدم براهين فلسفية، لأنه موجه للفلاسفة الذين يرفضون قيامة الأجساد.
هذا وتكشف الكتابات الرئيسية للقديس إكليمنضس السكندري عن منهج المدرسة:
“نصح لليونانيين” Protrepticus: حيث يدعو اللوغوس كلمة الله” البشرية للخلاص من براثن الوثنية خلال الإيمان. هنا يبرز شخص السيد المسيح أنه المخلص وهو “الهادي”.
المعلم أو المربي Paedagogus. يحث السيد المسيح المؤمنين على الحياة الأفضل، بكونه المرشد السماوي، والقائد إلى السماويات.
المتفرقات Stromata أو المتنوعات. لم يكمل هذا العمل، لكنه يؤكد أن الفيلسوف المسيحي يجد كل الكفاية لاحتياجاته في الإنجيل. يعتبر القديس إكليمنضس أول من قام بتزويج الفلسفة بالإيمان. ففي نظره إن كان الله قد سلم اليهود الشريعة لتقودهم إلى المخلص، فقد وهب ما هو حق في الفلسفة لكي تقود الأمم إلى المخلص.
بهذا يكشف لنا القديس عن المنهج المسيحي للكرازة. إننا لا نهاجم الآخرين، وإنما بالحب مع الحكمة نطلب من الله أن يرشدنا كيف نقدم كلمته القادرة أن تشبع النفوس وتسمو بالنفوس لتختبر عربون السماويات..
المرحلة الثالثة: آباء الإسكندرية وعصر المجامع المسكونية
من يدرس المجامع المسكونية الأولى، يلتقي برجال الفكر المسيحي الإسكندري كأبطال إيمان وقادة فكر على مستوى مسكوني. لقد كان لمدرسة الإسكندرية دورها الإيجابي يسند قادة كنيسة الإسكندرية بل والغيورين من الشعب في الاهتمام باستقامة الإيمان والشهادة الإنجيل المسيح كلما حانت لهم الفرصة. لم يشغل كنيسة الإسكندرية الخوض في السياسة الزمنية. لأن الإسكندرية عاشت خاضعة للدولة الرومانية تحكمها روما، ثم بيزنطة فيما بعد، حتى دخول العرب مصر، إنما يسندهم مركزهم الروحي التقوي اللاهوتي والإنجيلي، فكانت مدرسة الإسكندرية بما تحمله من قوة الروح ومن الفكر اللاهوتي العميق والدراسات الكتابية سر قوة أباء الإسكندرية.
لم يطمع آباء الإسكندرية في مراكز قيادية لأغراض شخصية، إنما اتساع قلبهم بالحب الإلهي وعمق دراساتهم جذبت الكثيرين إلى مدرسة الإسكندرية وإلى برية مصر، يرتوون بلاهوتياتها ويتدربون على الحياة النسكية على أيدي رهبان مصر. هذا بجانب ما اتسم به الأقباط منذ فجر المسيحية بالغيرة على الإيمان المستقيم، فكان لهم دورهم الإيجابي لعلاج الكثير من المشاكل اللاهوتية في الشرق كما في الغرب. لم يقحموا أنفسهم في مشاكل كنائس أخرى، ولا تطفلوا عليهم، إنما بروح الحب والوحدة وخلال علاقات الأخوة الصادقة كانوا يستدعون لحل هذه المشاكل أو يطلب إليهم خلال رسائل متبادلة.
عندما قبل الأباطرة الإيمان المسيحي، وهدأت موجات الاضطهاد المتوالية وجد الهراطقة مجالات متسعة لنشر أفكار مضادة للإيمان، خاصة أريوس ونسطور وأوطيخا وأبوليناريوس الخ. وكان لا بد الآباء الإسكندرية أن يكون لهم دورهم الإيجابي في محاولة رد الهراطقة بطول أناة، لكن ليس على حساب الإيمان الكنسي الإنجيلي. لهذا ساهمت كنيسة الإسكندرية في المجامع المسكونية الثلاثة.
المجمع المسكوني الأول بنيقية سنة ۳۲۰م حيث قاومت الكراسي الأربع أورشليم وأنطاكية وروما والإسكندرية بدعة أريوس، الذي أنكر لاهوت السيد المسيح. وقد وضع المجمع قانون الإيمان الذي يدعوه أغلب الدارسين “قانون الإيمان الأثناسيوسي”، نسبة إلى البابا أثناسيوس الرسولي السكندري. أغلب الكاتیشیزم التي ظهرت حديثا أبرزت هذا القانون وشرحته باختصار لعامة الشعب وللجيل الجديد كما للدارسين.
ولقد قدرت كنيسة الإسكندرية ومنذ وقت مبكر جدا، قيمة إسهامات القديس أثناسيوس اللاهوتية في تحديد وصياغة مضمون الإيمان والمحافظة على التقليد الرسولي الذي استلمته الكنيسة من تلاميذ الرب نفسه، بل وترتيبه “للمعرفة الرسولية” كما يذكر القديس كيرلس الإسكندري عنه”. ولقد وضح هذا التقدير لبابا الإسكندرية العشرين في أن الكنيسة قد لقيته في نصوصها الليتورجية بالرسولي.
لقد سبق لي الحديث عن البابا أثناسيوس والأريوسية، وشهادة الكتاب الغربين له.
المجمع المسكوني الثاني بالقسطنطينية عام ۳۸۱م اهتم المجمع ببحث هرطقة مقدونيوس بطريرك القسطنطينية الذي اعتقد بأن الروح القدس مخلوق. كما نظر المجمع في هرطقة أبوليناريوس الذي في دفاعه عن لاهوت المسيح اعتقد أن الكلمة أخذ جسدا بدون نفس بشرية. لقد ظن أن النفس البشرية لها إرادة بشرية فيكون السيد المسيح بإرادتين: إرادة اللاهوت وإرادة الناسوت، وبذلك يكون شخصين. اشترك في المجمع تيموثاوس بابا الإسكندرية مع نكتاريوس بطريرك القسطنطينية وغريغوريوس الثاؤلوغوس وغريغوريوس أسقف نیصص. ذكر المؤرخ Sozomen أن عدد الأساقفة المشتركين نحو 150 أسققا، برئاسة تيموثاوس أسقف كرسي الإسكندرية.
المجمع المسكوني الثالث بأفسس: انعقد في عام 431م تحت رئاسة كيرلس الإسكندري، اشترك فيه مائتا أسقف لمحاكمة نسطور الذي استخدم عبارة خريستوتوكوس عن السيدة العذراء ومز بين الإنسان يسوع المولود من مريم وابن الله الساكن فيه، فهو يرى أنه يوجد شخصان متمایزان في المسيح: ابن مريم وابن الله. اتحدا ليس أقنوما بل على مستوى أخلاقي. لذلك لا يدعى المسيح الله بل اثيوفورون” أي “حامل الله”. وذلك كما يمكن أن يسمي القديسون من أجل عمل النعمة الإلهية فيهم. وبالتالي فإن مريم ليست والدة الإله، بل والدة الإنسان يسوع الذي سكنه اللاهوت. انتقد نسطور وأتباعه المجوس لسجودهم للطفل يسوع، كما نادوا بأن اللاهوت انفصل عنه لحظة الصلب.
ما هو أثر المجامع الثلاثة على كاتشيزم الكراسي المسيحية أو الكنيسة الجامعة؟
جميع الكنائس الرسولية، سواء الأرثوذكسية الخلقيدونية، أو غير الخلقيدونية أو الكنيسة الكاثوليكية بروما تعتبر أن هذه المجامع الثلاثة المسكونية لها الفضل في إيضاح الإيمان خاصة الثالوث القدوس والرد على كثير من الهرطقات التي ظهرت في هذه الفترة. ومع وجود بعض الخلافات البسيطة للغاية في التعبير، غير أن هذه المجامع ناقشت بروح الحب مع الغيرة المقدسة على الإيمان.
أما بالنسبة لمجمع خلقيدونية في عام 451م، فتعتبر بعض الكنائس الرسولية أنه لم يأت بجديډ، إنما هو شرح وتوضيح لما جاءت به المجامع الثلاثة الأولى. جاء حوارنا غير الرسمي والرسمي مع الكنائس الرسولية الأرثوذكسية الخلقيدونية والكنيسة الكاثوليكية في أواخر القرن العشرين بانفتاح. وأدرك الكل أننا لسنا أوطاخيين كما كانوا يظنون، أي لسنا ننادي بأن الناسوت تلاشي باللاهوت. لقد وصلنا إلى نتائج إيجابية مع إخوتنا الأرثوذكس الخلقيدونيين.
أذكر على سبيل المثال في أول اجتماع رسمي بين العائلتين رفض الخلقيدونيين دعوتنا “أرثوذكس”، وكانوا مصممين على دعوتنا كنائس شرقية قديمة. وبعد حوار مملوء حبا حدث الآتي:
أولًا : بعد عدة سنوات في لقاء مع أحد اللاهوتيين اليونانيين، قلت له: هل تذكر يوم رفضتم دعوتنا أرثوذكس؟ فابتسم وقال: إننا نشعر في وحدة معكم ربما أكثر من الوحدة التي بيننا نحن الأرثوذكس الخلقيدونيين فيما بيننا.
ثانيًا: إن أحد الأحباء وهو كاهن مشهور قام بالإشراف على الدكتوراه لبعض الأقباط بإنجلترا، كان يقوم بالرد على كل من يتهم القديس ديسقورس بالهرطقة، وكان يقول: لدي محاضر مجمع خلقيدونية باللغة اليونانية، وهي تشهد بأنه لم يتهم هذا القديس ديسقورس بالهرطقة، بل كان اتهامه بأنه أهان بابا روما.
ثالثا: عندما انفتحت العائلتان الأرثوذكسيتان بروح الحب المتبادل، كان عند دخول هذا الأب، يهمس البعض من الخلقيدونيين لقد جاء المدافع عن الكنيسة القبطية.
رابعا : أذكر بروح الحب أنه بعد انعقاد إحدى الجلسات للعائلتين، عاد الأستاذ الدكتور فيداس اليوناني إلى الجامعة باليونان وطلب أن يقف تلاميذه الأقباط، وقال أمام جميع الطلبة إنني فخور بالأقباط وأسر أن يدرسوا معنا، وأن لهم مكانة خاصة عندي.
لقد عشنا في الجلسات الأخيرة أو الحلقات الأخيرة نشعر بروح الحب والوحدة، وأقيمت حلقات الدراسة الوحدة في الطريق العملي وفي الجانب الرعوي. وإن كنت لم أشترك فيها لأن ما كان يشغلني أولا وحدة الإيمان والعقيدة والتعليم.
المرحلة الرابعة: مجمع خلقيدونية والكاتیشیزم القبطي
في المنتصف الثاني من القرن العشرين، إذ وهب الله الكثيرين محبة الوحدة الكنسية على أساس المحبة الصادقة واستقامة التعليم، قام بعض الدارسين من الفريق الخلقيدوني والفريق غير الخلقيدوني بدراسة محاضر جلسات مجمع خلقيدونية. وفي اشتياقنا إلى المحبة المخلصة في المسيح يسوع مع التمسك باستقامة الإيمان لا نريد الحديث عن موقف بابا روما من بابا الإسكندرية، إذ كان الأخير في كل المجامع الثلاثة الأولى له دوره وتقديره حتى عند الأباطرة، بينما بابا روما كان يكتفي بإرسال مندوبين عنه، وأحيانا لم يرسل أحدا، ومع ذلك يعتز كرسي روما بالثلاثة المجامع المسكونية الأولى.
الحوار بين الكنائس دعاني لإبراز الفكر اللاهوتي، وقمت بنشر مقالات وكتب عن هذا الفكر، بالإنجليزية والعربية، منها:
الطبيعة والأقنوم عند آباء الكنيسة الأولى
طبيعة المسيح Christology.
تخصيص فصل عن القديس ديسقورس في كتاب: “الكنيسة القبطية كنيسة علم ولاهوت”.
هذا وقد قام اللاهوتي الهندي بنشر رسالة الدكتوراه الخاصة بإعادة تقييم مجمع خلقيدونية بالإنجليزية وترجمت إلى العربية. هذا وقد اقتبست مقتطفات لبعض الدارسين من رجال الكنيسة الأرثوذكسية الخلقيدونية، ورجال الكنيسة الغربية يشيدون بأن بعض عبارات واردة في طومس لاون يمكن أن تفسر بأنها تحمل ميول نسطورية إن أخذت بمفردها.
ما يشغلني هنا ليس الدفاع عما تحملته الكنيسة القبطية والسريانية من اضطهاد مر بتسليم كنائسنا للبطريرك الملكي الذي كان يفرض علينا ويعطي سلطان مدني لمقاومة المؤمنين تصل إلى قتل الكثيرين، إنما أكتفي بتقديم تصحيح ما أتهم به القديس ديسقورس في اختصار شديد.
القديس ديسقورس وأوطیخا: كان أوطيخا أرشمندريت ورئيس دير بالقسطنطينية، وكان يعيش تحت قيادته حوالي ۳۰۰ راهبا. وهو ناسك شيخ، وهب البلاغة لكنه لم يكن لاهوتيا حقيقيا. لعب دورا خطيرا في الانشقاق الكنسي في القرن الخامس. كان الأوطيخا شهرة فائقة في كرسي القسطنطينية، وفي الأوساط الديرية، وفي البلاط الإمبراطوري، وعلى مستوى الشعب. هذا يرجع إلى ذكائه وبلاغته مع حياته النسكية وعلاقته الوطيدة بالقصر الإمبراطوري، خاصة خلال قريبه خريسافيوس كبير الحجاب.
في الواقع لم يكن أوطيخا يمثل اللاهوت الإسكندري أو الأنطاكي، إنما غيرته الشديدة ضد النسطورية التي كانت قد انتشرت في تلك المنطقة ودفاعه عن الصيغة الإسكندرية قادته إلى هرطقة أخرى، إذ أخطأ بقوله وجود طبيعتين قبل الاتحاد، ولكن طبيعة واحدة فقط بعده، لأن الطبيعة الإلهية قد ابتلعت الناسوتية، وفقدت الأخيرة تماما.
ليس بالصعب على أي دارس أن يكتشف شخصية أوطيخا ولاهوتياته من مجرد قراءة إجاباته أثناء مناقشته في مجمع أفسس سنة 448، 449م. لم يكن بالشخص اللاهوتي، ولا مدركا لنظام اللاهوت الإسكندري، إنما تارة يستخدم عبارات أرثوذكسية تضاد أفكاره الرئيسية. ربما لأنه كان متزعزعا في معرفته اللاهوتية، أو عن خداع، أو ربما لحذره لئلا يفقد شهرته أو مركزه أو كهنوته.
التجاء أوطيخا إلى الإمبراطور والأساقفة: كتب لاون أسقف روما إلى أوطيخا يمتدحه على غيرته في الدفاع ضد الثنائية النسطورية، وفي نفس الوقت كتب إلى فلافيانوس يطلب منه الترفق بأوطيخا. لكنه غير رأيه ربما عندما سمع أن الإمبراطور كتب إلى القديس ديسقورس بابا الإسكندرية يدعوه إلى عقد مجمع لمناقشة الأمر. لاون الذي لم تكن لديه معرفة صادقة لطبيعة الصراع بين لاهوت الإسكندرية ولاهوت إنطاكية أرسل طومسه (رسالة إلى القسطنطينية في 13 يونيو 449م، لا من أجل مصالحة الطرفين، وإنما بغية تشويه اللاهوتيين الإسكندريين.
مجمع أفسس الثاني لسنة 49 4م: إذ اقتنع الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني بعقد مجمع طلب من ديسقورس أن يمارس سلطته في المجمع كرئيس، وطلب من يوبيناليوس أسقف أورشليم وتلاسيوس أسقف قيصرية كبادوكية أن يكونا رئيسين شريكين معه.
الم ينطق القديس ديسقورس حتى اللحظة الأخيرة من انعقاد المجمع بكلمة ضد روما، بينما لاون في رسائله يشير إلى بطريركنا بأنه “السفاح المصري” و “معلم أخطاء الشيطان” والباذل بقوة جهده لبث التجاديف وسط إخوته. وسنرى كيف أن أناطوليوس أسقف القسطنطينية وغيره قد رفضوا تب الهرطقة للبابا الإسكندري.
اعتاد بعض الدارسين أن ينسبوا العنف إلى لاهوتي الإسكندرية وآبائها، حتى بالنسبة للقديسين أثناسيوس وكيرلس.
القديس ديسقورس ومجمع خلقيدونية: بالرغم من الاعتقاد بأن مجمع خلقيدونية عقد لإدانة أوطيخا، فقد كان في الواقع موجها ضد البابا ديسقورس الإسكندري، وليس ضد الراهب الشيخ، إذ كان أوطيخا غير حاضر في المجمع وكان قد نفي في شمال سوريا قبل عقد المجمع.
في الواقع أدين ديسقورس لا لهرطقة عقيدية، وإنما لظروف سياسية لعبت الدور الرئيسي في المجمع.
يقول الأستاذ اليوناني الأب رومانیدس: القد كسب ديسقورس أرثوذكسيا تماما في إيمانه في نظر بعض الآباء القادة في مجمع خلقيدون مثل أولئك الذين مثلوا أناتوليوس بطريرك القسطنطينية.
ويقول الأب ميثوديوس مطران أكسيوم: المعلومات التي لدينا لا تصور دیسقورس كهرطوقي، فمن المعلومات التي بين أيدينا واضح أنه كان إنسانا صالحا، بل والأسقف لاون نفسه حاول أن يكسبه إلى جانبه… هكذا في خطاب بعث به الإمبراطور ثيؤدوسيوس إلى ديسقورس دعاه فيه إنسانا تشع منه نعمة الله، وديعا، أرثوذكسي الإيمان.
في أثناء المجمع أعلن ديسقورس إيمانه مرات عديدة، ولم يدن بأنه هرطوقي، وإنما لأنه رفض رئيس الأساقفة لاون في الشركة، ولأنه امتنع عن حضور المجمع رغم دعوته ثلاث مرات.
الأدلة كافية للكشف عن أسباب أخرى لإدانة ديسقورس. فإن روما كانت في ضجر بسبب الحيوية غير الطبيعية لكنيسة الإسكندرية وبطريركها النشيط.
صادق الملك على قرار المجمع وأصدر أمره بنفي البابا ديسقورس إلى جزيرة غاغرا باسیا الصغرى. وبقي في منفاه مدة خمس سنوات صرفها في هداية الضالين وشفاء المرضى، وانتقل إلى عالم المجد سنة 457م.
ما هي نتائج مجمع خلقيدونية على كاتیشیزم الكنيسة؟
قيام لاهوتيين عظماء مثل مار فيلوكسينوس والبابا تيموثاوس والبطريرك المعلم العظيم القديس سويرس الأنطاكي حافظوا على استقامة الإيمان، وقال عنهم الأب میندورف إنه لم يوجد لاهوتي في الجانب الخلقيدوني يقف أمامهم.
بسبب هذا المجمع خرمت أنطاكية من رعاية بطريركها القديس سويرس الذي هرب إلى مصر متخفيا لمدة ۲۰ عاما. كما اضطر البابا بنيامين إلى الهروب من الإسكندرية حتى دخل العرب مصر، وأرسلوا إليه رسالة أمان كي يرجع إلى كرسيه.
الاضطهاد المر الذي حل على كنيسة الإسكندرية على يد إخوتهم المسيحيين حرم الشعب والخدام ورجال الكهنوت إلى حير ما من العمل الإيجابي في الرعاية والتعليم بالرغم من بذلهم كل الجهد للخدمة حتى وهم هاربون من اضطهاد إخوتهم لهم. وكان الملكيون يقتفون آثار حتى الرهبان في الأديرة والمتوحدين لاستخدام كل وسائل العنف ضدهم. المرحلة الخامسة.
من القرن السابع حتى التاسع
كان دور الحكومات الإسلامية المختلفة، خاصة المتطرفة استخدام العنف في طرد الأقباط من المراكز الحكومية ومصادرة ممتلكات الأقباط، والالتزام بالتكلم باللغة العربية ومقاومة استخدام أية لغة أخرى في الحديث والكتابة. وأيضا القيام بأعمال الإبادة وعزل الأقباط عن العالم الخارجي، حتى صار بقاء الأقباط إلى يومنا هذا إحدى معجزات الدنيا كما قالت مدام Bucher بجامعة أكسفورد.
هذه الظروف دفعت على الحفاظ على العقائد والتقليد والطقوس دون أي انحراف. المرحلة السادسة: من القرن العاشر حتى الخامس عشر في القرن العاشر الميلادي لأول مرة ظهرت الكتابات العربية للأقباط على يد الأنبا ساويروس بن المقفع أسقف الأشمونين، نجد أن كتابا بعنوان: “الدر الثمين في إيضاح الاعتقاد في الدين” ينسب في بعض المخطوطات لابن المقفع وفي البعض الآخر للأسقف بولس البوشي (ق ۱۳) والذي تأثرت كتاباته بالقديس أثناسيوس، ويشمل هذا الكتاب ۱۰ فصلا عن عقيدة الكنيسة ويستشهد كاتبه بالكتاب المقدس وأقوال الآباء لإيضاح موضوعات الثالوث القدوس والتجسد والروح القدس. ورد فيه اسم أثناسيوس الرسولي 16 مرة مع نصوص له. ولأهمية هذا الكتاب العقائدي القيم تسخت منه عدة مخطوطات بلغت ۳۱ مخطوطا وانتشرت في مكتبات العالم في الشرق والغرب.
يعتبر القرن الثالث عشر الميلادي العصر الذهبي للأدب العربي المسيحي للأقباط، فقد ظهر في هذا القرن عدد من الكتاب يفوق العدد الذي ظهر في القرون السابقة والقرنيين اللاحقين. ويرجع هذا إلى حالة الهدوء والاستقرار والسلام الذي عاشته الكنيسة في العصر المتأخر للدولة الأيوبية (1171 – 1250) حيث أتيحت حرية التعبير وكثرت مجالات الحوار سواء على مستوى السياسي أو الديني.
من أهم الكتاب الأقباط الذين ساهموا بكتاباتهم المختلفة في تكوين وإثراء التراث العربي المسيحي هو الأسقف بولس البوشي كان مرشحا للكرسي البطريركي بعد نياحة الأنبا يؤانس السادس البطريرك 74 ( ۱۲۱۹ – ۱۱۸۹ م). له عدة مؤلفات جيدة في تفسير الكتاب المقدس والعقيدة والدفاع عن المسيحية وفي أمور کنسية ورعوية.
المرحلة السابعة: من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين لعل من أشهر الأحداث في هذه المرحلة الآتي:
الحروب الصليبية: للأسف ظن كثير من المسلمين أن الأقباط يناصرون الأوربيين في حملاتهم الصليبية، وفي نفس الوقت أخذ الصليبيون موقف العداء من الأقباط بكونهم مصريين.
الحملة الفرنسية على مصر والاستعمار البريطاني: مع قصر مدة الحملة الفرنسية (إذ دامت ثلاث سنوات و18 يوما)، قدمت للمسلمين والمسيحيين صورة معثرة للمسيحية. لم يأتمن المسلمون نابليون بونابرت وشعروا أنه يود أنه يخدعهم حين بعث إليهم برسالة يؤكد لهم فيها أنه قادم للدفاع عن الإسلام، كما ارتدي ملابس عربية وكان بكل جسمه يهتز وهو يردد التواشيح. أما كليبر فجحد مسيحه ليتزوج فتاة مسلمة!
وكان الغرض الأول من الحملة كما قال بونابرت “كسر شوكة الإنجليز في الشرق”.
يرى البعض أن لهذه الحملة. الأثر في تكوين مصر الحديثة. فقد أنشأ نابليون بونابرت دواوين أو مجالس مؤلفة من كبار العلماء والتجار وممثلي الطوائف للنظر في الشئون العامة، وكان بونابرت أول من أدخل النظام النيابي في مصر.
وقد عمل الفرنسيون على تحسين العاصمة، فأنشأوا طرقا واسعة منتظمة في المدينة وغرسوا الأشجار على جانبي الطرق، وأرغموا السكان على الإضاءة ليلا، وردموا بركة الأزبكية وحرموا الدفن في جباناتها، فأصدروا منشورا يقضي بدفن الموتى في أماكن بعيدة عن المدينة اتباعا لأصول الصحة.
أتى نابليون إلى مصر بوفود من العلماء والمفكرين للتنقيب عن آثارها والوقوف على أسرار طبيعتها المجهولة، لقد أيقظ المصريين في هذا المجال، إذ حدثت هزة عنيفة في البلاد تمخضت عنها الفكرة الاستقلالية التي ظهرت ملامحها في عصر محمد على وتجلت في عصر إسماعيل باشا.
بالنسبة للاستعمار البريطاني، فقد وجدت شخصيات قبطية تبذل كل الجهد لإبراز وطنية الأقباط.
أما عن أثر الحملتين على كاتیشیزم الكنيسة القبطية، فقد نشأت المدارس الفرنسية والبريطانية، وكان من أثرهما أن صارت بعض العائلات الغنية من الأقباط والمسلمين تتحدث الفرنسية وتجيدها عن العربية، كما اهتمت المدارس الحكومية بتدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية، واهتمام بعض الأعمال الحرة أن تستخدم الإنجليزية مع العربية في بعض إعلاناتها. كما فتح الباب للإرساليات الكاثوليكية والإنجيلية (البروتستانت) للدخول إلى مصر، وقام بعض الدارسين الأقباط إلى الكتابة للكشف عن المفاهيم الأرثوذكسية، وإذ هوجمت الكنيسة في عقائدها وطقوسها ظهر اللاهوت الدفاعي. ٣. حبيب جرجس (۱۸۷۹-۱۹۰۱): وجدت شخصيات من رجال الكهنوت والشعب قاموا بحركات قوية للإصلاح، نذكر الشخصية البارزة الأرشيدياكون حبيب جرجس.
كان مفكرا ودارا وكاتبا لاهوتيًا ورائدا في مجال التعليم الديني. ولد في الأزبكية بالقاهرة، والتحق بالمدرسة القبطية بحارة السقايين. وهو من أوائل الطلبة الذين التحقوا بالكلية الإكليريكية بعد أن أعاد البابا كيرلس الخامس افتتاحها عام ۱۸۹۲، وتخرج فيها عام ۱۸۹۸، وغين مدرا للاهوت بها في ۸ مايو عام ۱۸۹۹ وكان عمره قد بلغ ۲۳ عاما، ثم عميدا لها في 14 سبتمبر عام ۱۹۱۸. افتتح فصولا مسائية لخريجي الجامعة بالمدرسة اللاهوتية عام 1945.
كان واعظا مشهورا، كما أسس حركة مدرسة الأحد، وكتب أول منهج لها، وقام بتدريب مدرسيها وعقد مؤتمرات لهم. اختير سكرتيرا عام للجنة مدارس الأحد في عام ۱۹۲۷. أصدر مجلة الكرمة أسبوعيا (۱۹۰۹-۱۹۲۳). نال ثقة أربعة بطاركة وهم كيرلس الخامس (البابا ۱۱۲)، ويؤانس التاسع عشر (البابا ۱۱۳)، ومكاريوس الثالث (البابا ۱۱۶)، والبابا يوساب الثاني (البابا ۱۱۵). كان يقوم بدور المشير لعدة بطاركة، خاصة البابا كيرلس الخامس. ترشح للأسقفية ثلاث مرات، ومرة للباباوية.
كان يشترك في المجمع المقدس لخبرته كرئيس شمامسة وخدمته الطويلة في مجال التعليم والتربية الكنسية. نجح في إدخال الدين المسيحي في المدارس الحكومية للمسيحيين.
نشر 26 كتابا والكثير من الترانيم، كما وضع كتب للأطفال وصلوات المناسبات مختلفة. وضع كتابه: الإصلاحات العملية في الكنيسة الأرثوذكسية. حث البابا كيرلس الخامس على توجيه المطارنة والأساقفة أن يختاروا خريجي الإكليريكية وسيامتهم كهنة في إيبارشياتهم.
المرحلة الثامنة: منذ ثورة ۲۳ يوليو ۱۹۰۲ حتى عام 1947
سمح الله بهذه المرحلة مع ما فيها من متاعب، فقد أبرز الله عمله معنا كثيرا، نذكر منها الآتي:
ففي بداية عهد الرئيس جمال عبد الناصر كان يضطهد المسيحيين، وذهب قداسة البابا كيرلس السادس إلى قصره، ورفض الرئيس مقابلته، لكن الله تدخل وصار الاثنان في صداقة عجيبة، وكان الرئيس يدعوه علانية: “يا والدي” بكل حب وتواضع إلى يوم وفاته.
اتسم قداسة البابا كيرلس بالبساطة، وبروح العبادة والتقوى استخدمه رب المجد لخلاص الكثيرين في مصر وخارجها. قام الأب أنطوني فانوس عميد المعهد الديني بسيدني أستراليا بكتابة رسالة دكتوراة عن هذا القديس ولاهوتياته، وبمشيئة الله سيقوم بنشرها في بدء عام ۲۰۱۹.
قام أحد المتطرفين من المسلمين باغتيال الرئيس أنور السادات بعد مرور شهر من تحديد إقامة البابا شنودة الثالث بالدير وحبس 7 أساقفة، و 1 خوري ابسكوبوس، و۲٤ كاهنا وأقل من ۱۰۰ شخص علماني، وكان يعد لهم اتهامات لمحاكمتهم. جاهر الشعب بحبهم للكنيسة، وتقديرهم للمقبوض عليهم.
في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس حسني مبارك لم يمر أسبوع دون حدوث اعتداء صارخ على الكنيسة، حتى سجلت إحدى الهيئات التي تدرس حركات الاضطهاد على المسيحيين في العالم، اسم مصر على رأس القائمة. فظهرت يد الله القوية وتزع عنه كرسيه.
إذ تولى مرسي الرئاسة وظن أنه قادر أن يحطم الكنيسة، إذا به يطرد ويسجن بعد مرور سنة من توليه الرئاسة.
كثيرا ما أتهم قادة الكنيسة بالخيانة الوطنية لمجرد اشتراكهم في مؤتمرات مسيحية عالمية.
في اختصار لم يكن للكنيسة حرية الحركة، لكن يبقى الله حافظا لإيمانها المستقيم، عاملا بكل قوة كشاهدة للحق الإلهي.
المرحلة التاسعة: بدء حركة الهجرة وانتشار الأقباط في العالم منذ عام ۱۹۹۸.
ما عاناه الأقباط في المرحلة السابقة، دفع الكثيرين إلى الهجرة إلى أمريكا وكندا وأستراليا وأوروبا . اعترف عن نفسي وزملائي بالكنيسة كنا نحسب الهجرة هروبا من احتمال الصليب. لكن قداسة البابا كيرلس كثيرا ما صرح مع بعض العائلات والأفراد المهاجرين، أن الله يرسلهم إلى المهجر ليشهدوا الإنجيل المسيح. لقد صارت هناك احتياجات كثيرة تلتزم بها الكنيسة، سبق الحديث عنها في أكثر من مناسبة، خاصة في “مذكرات كاهن في أرض المهجر” في جزئين. الآن بعد أن مر على حركة الهجرة أكثر من نصف قرن، أشعر بالحاجة إلى تسجيل كاتیشیزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية”.
القمص تادرس يعقوب ملطي
يليق بنا أن نسجل الظروف التي عاشت فيها الكنيسة القبطية منذ نشأتها حتى العصر الحالي الإدراك حقيقة تعليمها الكنسي، ولكي ننتفع من خبرتها الطويلة خلال الواحد وعشرين قرئا.
لم يفارق الاضطهاد الكنيسة القبطية منذ نشأتها في منتصف القرن الأول حتى هذا القرن الحالي. لقد تعجبت مدام بوتشر أستاذة التاريخ بجامعة أكسفورد، إذ قالت إن بقاء الأقباط إلى يومنا هذا يعتبر أحد عجائب الدنيا.
تطلع إشعياء النبي في القرن الثامن ق.م. إلى كنيسة الأقباط، وسجل بروح النبوة أروع صورة النشأتها.
لقد عانت الكنيسة الكثير من الاضطهادات حتى من المسيحيين أنفسهم حين كان يضطهدها إمبراطور القسطنطينية ويعين لها بطريركا ويعطيه السلطان كوالي لا يكف عن ممارسة الاضطهاد و هم حتى على الرهبان في الأديرة والصحاري ليوقعوا على طومس لاون.
حقا إننا نشكر الله الذي سمح لمصرنا التي تنبأ عنها إشعياء النبي أن تمر بفترات تبدو غاية في المرارة ولمدد طويلة، لكنها قدمت لنا الفرص أن نسبح المصلوب قائلين مع الرسول: “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في” (غل ۲ : ۲۰ ).
لقد قدم لي أحد الأحباء خطابا أرسله شخص إلى بعض الشركات والأشخاص القادرين بأمريكا، جاء فيه أنه يطلب المساهمة في العمل الكرازي الذي سيقوم به في زيارته إلى مصر، وحسب نفسه أنه سيقدم المسيح للأقباط الذين قدموا شهداء لكن كنيستهم ميتة لا تعرف المسيح (في نظره)! لسنا ندافع عن كنيستنا، فيوم الرب ليس ببعيد لنرى أفواج الشهداء البسطاء والرعاة واللاهوتيين الأتقياء كعروس سماوية تجلس عن يمين ملك الملوك!
إن الضيق الذي حل على الكنيسة عبر العصور ساهم في إبراز الإيمان الحي والتعاليم المستقيمة وعمل الثالوث القدوس في الكنيسة دون انحراف نحو أمجاد العالم والانشغال بالسياسات الزمنية، بل التركيز على انتظار مجيء الرب على السحاب.
المرحلة الأولى: الكاتیشیزم في العصر الرسولي
بدأت المسيحية في مصر بحركة بسيطة لكنها عميقة للغاية. فقد صرخ إنيانوس الإسكافي: “یا الله الواحد”، عندما اخترق المخراز يده وهو يصلح حذاء القديس مرقس. أبرأ القديس مرقس الرسول يده باسم ربنا يسوع المسيح. بهذا شهد الله الواحد الذي آمن به إنيانوس دون أن يعرفه. وتحدث معه القديس مرقس عن الله الذي يشفي ليس فقط أجسادنا بل وطبيعتنا البشرية بيسوع المسيح، كلمته المتجسد، واعتنق إنيانوس المسيحية، وسامه مار مرقس أول أسقف للإسكندرية.
يليق بنا هنا أن نلاحظ أمرين:
أ. لم يهاجم القديس مرقس الديانة المصرية الوثنية آنذاك، لكنه على العكس استخدم كلمات إنيانوس: “يا الله الواحد” كنقطة بداية للكرازة بالحق الإنجيلي. وموقفه هذا يشبه ما صنعه بولس الرسول في أثينا، إذ قال: “فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنا أنادي لكم به” (أع ۲۳ : ۱۷)، كما قال: “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بعض شعرائكم أيضا لأننا أيضا ذريته” (أع ۲۸ : ۱۷). وقد سار آباء الإسكندرية على نفس خطوات القديس مرقس، فكرزوا بالحق الإنجيلي غير المتغير للمصريين وأصحاب الثقافة الهيلينية (اليونانية) بالإسكندرية؛ فكانوا يتحدثون ببساطة للبسطاء، وبلغة الفلسفة للفلاسفة..
ب. استخدم القديس مرقس حادثة شفاء جرح إنيانوس باسم المسيح يسوع كنقطة بداية ليكرز بالإنجيل.
هكذا لم يظهر الله كفكرة مجردة يعتقد بها الإنسان، وإنما يعلن عنه كمخلص يشفي البشرية كلها ويخلصها. هذا هو المبدأ الأساسي للاهوت السكندري حتى يومنا هذا، فهو لاهوت خلاصي soteriology. إننا نعرف الله ليس من خلال مناقشات نظرية جافة، وإنما من خلال أعماله الخلاصية، حيث يهبنا المعرفة الجديدة والحياة الجديدة والخلود.
بذر بحق القديس مرقس في تربتنا اللاهوتية البذرة التي أنتجت ثمارا على مر العصور، إحدى هذه الثمار العلاقة الوثيقة بين المعرفة اللاهوتية والخلاص العملي. فالله يمنحنا المعرفة، ولكن ليس بمعزل عن الخلاص، يظهر هذا الفكر بوضوح في لاهوتيات القديس إكليمنضس السكندري الذي يقدم لنا يسوع المسيح كمعلم إلهي Paedagogus وكطبيب، قائلا عنه: (الطبيب الواهب الشفاء الكلي للبشرية جمعاء.] بمعنى آخر المعرفة الإلهية عند القديس إكليمنضس لا تنفصل عن خلاصنا، وقد كتب بصراحة هكذا: إنها مشيئة الله أن نبلغ معرفة الله، التي هي سبيلنا للخلود”.
كما كتب: إصار الكلمة إنسانا لكي تتعلموا كيف يصير الإنسان إلها.۲] بهذا ندرك لماذا لم يتحدث معنا كلمة الله المتجسد بألفاظ لاهوتية، ولم يضع لنا صيغة إيمان ثالوثي، إنما في بساطة أعلن لنا عن الثالوث القدوس خلال أعماله الخلاصية.
۲. إذ كانت مدرسة الإسكندرية الفلسفية التي أنشأها بطليموس قائمة، مع تأسيس أكبر مكتبة في الشرق، ووجود مدارس يهودية، كان لزاما أن تؤسس مدرسة الإسكندرية المسيحية. يرى القديس چیروم أن القديس مار مرقس هو مؤسسها، ويعتبرها كثير من الدارسين أول مدرسة مسيحية في العالم.
المرحلة الثانية: ازدهار مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني
تكشف كتابات العلامة أثيناغوراس والقديسين بنتينوس وإكليمنضس والعلامة أوريجينوس عمداء مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني عما كان يشغل برنامج المدرسة وتعاليمها وهي:
ويعتبر العلامة أوريجينوس أمير شراح الكتاب المقدس، وهو يقسم طرق التفسير إلى:
وإني أرجو الحديث عن هذه المناهج الثلاثة للتفسير، وخطورة المبالغة في أي منهج منها .
هذا وتكشف الكتابات الرئيسية للقديس إكليمنضس السكندري عن منهج المدرسة:
بهذا يكشف لنا القديس عن المنهج المسيحي للكرازة. إننا لا نهاجم الآخرين، وإنما بالحب مع الحكمة نطلب من الله أن يرشدنا كيف نقدم كلمته القادرة أن تشبع النفوس وتسمو بالنفوس لتختبر عربون السماويات..
المرحلة الثالثة: آباء الإسكندرية وعصر المجامع المسكونية
من يدرس المجامع المسكونية الأولى، يلتقي برجال الفكر المسيحي الإسكندري كأبطال إيمان وقادة فكر على مستوى مسكوني. لقد كان لمدرسة الإسكندرية دورها الإيجابي يسند قادة كنيسة الإسكندرية بل والغيورين من الشعب في الاهتمام باستقامة الإيمان والشهادة الإنجيل المسيح كلما حانت لهم الفرصة. لم يشغل كنيسة الإسكندرية الخوض في السياسة الزمنية. لأن الإسكندرية عاشت خاضعة للدولة الرومانية تحكمها روما، ثم بيزنطة فيما بعد، حتى دخول العرب مصر، إنما يسندهم مركزهم الروحي التقوي اللاهوتي والإنجيلي، فكانت مدرسة الإسكندرية بما تحمله من قوة الروح ومن الفكر اللاهوتي العميق والدراسات الكتابية سر قوة أباء الإسكندرية.
لم يطمع آباء الإسكندرية في مراكز قيادية لأغراض شخصية، إنما اتساع قلبهم بالحب الإلهي وعمق دراساتهم جذبت الكثيرين إلى مدرسة الإسكندرية وإلى برية مصر، يرتوون بلاهوتياتها ويتدربون على الحياة النسكية على أيدي رهبان مصر. هذا بجانب ما اتسم به الأقباط منذ فجر المسيحية بالغيرة على الإيمان المستقيم، فكان لهم دورهم الإيجابي لعلاج الكثير من المشاكل اللاهوتية في الشرق كما في الغرب. لم يقحموا أنفسهم في مشاكل كنائس أخرى، ولا تطفلوا عليهم، إنما بروح الحب والوحدة وخلال علاقات الأخوة الصادقة كانوا يستدعون لحل هذه المشاكل أو يطلب إليهم خلال رسائل متبادلة.
عندما قبل الأباطرة الإيمان المسيحي، وهدأت موجات الاضطهاد المتوالية وجد الهراطقة مجالات متسعة لنشر أفكار مضادة للإيمان، خاصة أريوس ونسطور وأوطيخا وأبوليناريوس الخ. وكان لا بد الآباء الإسكندرية أن يكون لهم دورهم الإيجابي في محاولة رد الهراطقة بطول أناة، لكن ليس على حساب الإيمان الكنسي الإنجيلي. لهذا ساهمت كنيسة الإسكندرية في المجامع المسكونية الثلاثة.
ولقد قدرت كنيسة الإسكندرية ومنذ وقت مبكر جدا، قيمة إسهامات القديس أثناسيوس اللاهوتية في تحديد وصياغة مضمون الإيمان والمحافظة على التقليد الرسولي الذي استلمته الكنيسة من تلاميذ الرب نفسه، بل وترتيبه “للمعرفة الرسولية” كما يذكر القديس كيرلس الإسكندري عنه”. ولقد وضح هذا التقدير لبابا الإسكندرية العشرين في أن الكنيسة قد لقيته في نصوصها الليتورجية بالرسولي.
لقد سبق لي الحديث عن البابا أثناسيوس والأريوسية، وشهادة الكتاب الغربين له.
ما هو أثر المجامع الثلاثة على كاتشيزم الكراسي المسيحية أو الكنيسة الجامعة؟
جميع الكنائس الرسولية، سواء الأرثوذكسية الخلقيدونية، أو غير الخلقيدونية أو الكنيسة الكاثوليكية بروما تعتبر أن هذه المجامع الثلاثة المسكونية لها الفضل في إيضاح الإيمان خاصة الثالوث القدوس والرد على كثير من الهرطقات التي ظهرت في هذه الفترة. ومع وجود بعض الخلافات البسيطة للغاية في التعبير، غير أن هذه المجامع ناقشت بروح الحب مع الغيرة المقدسة على الإيمان.
أما بالنسبة لمجمع خلقيدونية في عام 451م، فتعتبر بعض الكنائس الرسولية أنه لم يأت بجديډ، إنما هو شرح وتوضيح لما جاءت به المجامع الثلاثة الأولى. جاء حوارنا غير الرسمي والرسمي مع الكنائس الرسولية الأرثوذكسية الخلقيدونية والكنيسة الكاثوليكية في أواخر القرن العشرين بانفتاح. وأدرك الكل أننا لسنا أوطاخيين كما كانوا يظنون، أي لسنا ننادي بأن الناسوت تلاشي باللاهوت. لقد وصلنا إلى نتائج إيجابية مع إخوتنا الأرثوذكس الخلقيدونيين.
أذكر على سبيل المثال في أول اجتماع رسمي بين العائلتين رفض الخلقيدونيين دعوتنا “أرثوذكس”، وكانوا مصممين على دعوتنا كنائس شرقية قديمة. وبعد حوار مملوء حبا حدث الآتي:
أولًا : بعد عدة سنوات في لقاء مع أحد اللاهوتيين اليونانيين، قلت له: هل تذكر يوم رفضتم دعوتنا أرثوذكس؟ فابتسم وقال: إننا نشعر في وحدة معكم ربما أكثر من الوحدة التي بيننا نحن الأرثوذكس الخلقيدونيين فيما بيننا.
ثانيًا: إن أحد الأحباء وهو كاهن مشهور قام بالإشراف على الدكتوراه لبعض الأقباط بإنجلترا، كان يقوم بالرد على كل من يتهم القديس ديسقورس بالهرطقة، وكان يقول: لدي محاضر مجمع خلقيدونية باللغة اليونانية، وهي تشهد بأنه لم يتهم هذا القديس ديسقورس بالهرطقة، بل كان اتهامه بأنه أهان بابا روما.
ثالثا: عندما انفتحت العائلتان الأرثوذكسيتان بروح الحب المتبادل، كان عند دخول هذا الأب، يهمس البعض من الخلقيدونيين لقد جاء المدافع عن الكنيسة القبطية.
رابعا : أذكر بروح الحب أنه بعد انعقاد إحدى الجلسات للعائلتين، عاد الأستاذ الدكتور فيداس اليوناني إلى الجامعة باليونان وطلب أن يقف تلاميذه الأقباط، وقال أمام جميع الطلبة إنني فخور بالأقباط وأسر أن يدرسوا معنا، وأن لهم مكانة خاصة عندي.
لقد عشنا في الجلسات الأخيرة أو الحلقات الأخيرة نشعر بروح الحب والوحدة، وأقيمت حلقات الدراسة الوحدة في الطريق العملي وفي الجانب الرعوي. وإن كنت لم أشترك فيها لأن ما كان يشغلني أولا وحدة الإيمان والعقيدة والتعليم.
المرحلة الرابعة: مجمع خلقيدونية والكاتیشیزم القبطي
في المنتصف الثاني من القرن العشرين، إذ وهب الله الكثيرين محبة الوحدة الكنسية على أساس المحبة الصادقة واستقامة التعليم، قام بعض الدارسين من الفريق الخلقيدوني والفريق غير الخلقيدوني بدراسة محاضر جلسات مجمع خلقيدونية. وفي اشتياقنا إلى المحبة المخلصة في المسيح يسوع مع التمسك باستقامة الإيمان لا نريد الحديث عن موقف بابا روما من بابا الإسكندرية، إذ كان الأخير في كل المجامع الثلاثة الأولى له دوره وتقديره حتى عند الأباطرة، بينما بابا روما كان يكتفي بإرسال مندوبين عنه، وأحيانا لم يرسل أحدا، ومع ذلك يعتز كرسي روما بالثلاثة المجامع المسكونية الأولى.
الحوار بين الكنائس دعاني لإبراز الفكر اللاهوتي، وقمت بنشر مقالات وكتب عن هذا الفكر، بالإنجليزية والعربية، منها:
هذا وقد قام اللاهوتي الهندي بنشر رسالة الدكتوراه الخاصة بإعادة تقييم مجمع خلقيدونية بالإنجليزية وترجمت إلى العربية. هذا وقد اقتبست مقتطفات لبعض الدارسين من رجال الكنيسة الأرثوذكسية الخلقيدونية، ورجال الكنيسة الغربية يشيدون بأن بعض عبارات واردة في طومس لاون يمكن أن تفسر بأنها تحمل ميول نسطورية إن أخذت بمفردها.
ما يشغلني هنا ليس الدفاع عما تحملته الكنيسة القبطية والسريانية من اضطهاد مر بتسليم كنائسنا للبطريرك الملكي الذي كان يفرض علينا ويعطي سلطان مدني لمقاومة المؤمنين تصل إلى قتل الكثيرين، إنما أكتفي بتقديم تصحيح ما أتهم به القديس ديسقورس في اختصار شديد.
القديس ديسقورس وأوطیخا: كان أوطيخا أرشمندريت ورئيس دير بالقسطنطينية، وكان يعيش تحت قيادته حوالي ۳۰۰ راهبا. وهو ناسك شيخ، وهب البلاغة لكنه لم يكن لاهوتيا حقيقيا. لعب دورا خطيرا في الانشقاق الكنسي في القرن الخامس. كان الأوطيخا شهرة فائقة في كرسي القسطنطينية، وفي الأوساط الديرية، وفي البلاط الإمبراطوري، وعلى مستوى الشعب. هذا يرجع إلى ذكائه وبلاغته مع حياته النسكية وعلاقته الوطيدة بالقصر الإمبراطوري، خاصة خلال قريبه خريسافيوس كبير الحجاب.
في الواقع لم يكن أوطيخا يمثل اللاهوت الإسكندري أو الأنطاكي، إنما غيرته الشديدة ضد النسطورية التي كانت قد انتشرت في تلك المنطقة ودفاعه عن الصيغة الإسكندرية قادته إلى هرطقة أخرى، إذ أخطأ بقوله وجود طبيعتين قبل الاتحاد، ولكن طبيعة واحدة فقط بعده، لأن الطبيعة الإلهية قد ابتلعت الناسوتية، وفقدت الأخيرة تماما.
ليس بالصعب على أي دارس أن يكتشف شخصية أوطيخا ولاهوتياته من مجرد قراءة إجاباته أثناء مناقشته في مجمع أفسس سنة 448، 449م. لم يكن بالشخص اللاهوتي، ولا مدركا لنظام اللاهوت الإسكندري، إنما تارة يستخدم عبارات أرثوذكسية تضاد أفكاره الرئيسية. ربما لأنه كان متزعزعا في معرفته اللاهوتية، أو عن خداع، أو ربما لحذره لئلا يفقد شهرته أو مركزه أو كهنوته.
التجاء أوطيخا إلى الإمبراطور والأساقفة: كتب لاون أسقف روما إلى أوطيخا يمتدحه على غيرته في الدفاع ضد الثنائية النسطورية، وفي نفس الوقت كتب إلى فلافيانوس يطلب منه الترفق بأوطيخا. لكنه غير رأيه ربما عندما سمع أن الإمبراطور كتب إلى القديس ديسقورس بابا الإسكندرية يدعوه إلى عقد مجمع لمناقشة الأمر. لاون الذي لم تكن لديه معرفة صادقة لطبيعة الصراع بين لاهوت الإسكندرية ولاهوت إنطاكية أرسل طومسه (رسالة إلى القسطنطينية في 13 يونيو 449م، لا من أجل مصالحة الطرفين، وإنما بغية تشويه اللاهوتيين الإسكندريين.
مجمع أفسس الثاني لسنة 49 4م: إذ اقتنع الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني بعقد مجمع طلب من ديسقورس أن يمارس سلطته في المجمع كرئيس، وطلب من يوبيناليوس أسقف أورشليم وتلاسيوس أسقف قيصرية كبادوكية أن يكونا رئيسين شريكين معه.
الم ينطق القديس ديسقورس حتى اللحظة الأخيرة من انعقاد المجمع بكلمة ضد روما، بينما لاون في رسائله يشير إلى بطريركنا بأنه “السفاح المصري” و “معلم أخطاء الشيطان” والباذل بقوة جهده لبث التجاديف وسط إخوته. وسنرى كيف أن أناطوليوس أسقف القسطنطينية وغيره قد رفضوا تب الهرطقة للبابا الإسكندري.
اعتاد بعض الدارسين أن ينسبوا العنف إلى لاهوتي الإسكندرية وآبائها، حتى بالنسبة للقديسين أثناسيوس وكيرلس.
القديس ديسقورس ومجمع خلقيدونية: بالرغم من الاعتقاد بأن مجمع خلقيدونية عقد لإدانة أوطيخا، فقد كان في الواقع موجها ضد البابا ديسقورس الإسكندري، وليس ضد الراهب الشيخ، إذ كان أوطيخا غير حاضر في المجمع وكان قد نفي في شمال سوريا قبل عقد المجمع.
في الواقع أدين ديسقورس لا لهرطقة عقيدية، وإنما لظروف سياسية لعبت الدور الرئيسي في المجمع.
يقول الأستاذ اليوناني الأب رومانیدس: القد كسب ديسقورس أرثوذكسيا تماما في إيمانه في نظر بعض الآباء القادة في مجمع خلقيدون مثل أولئك الذين مثلوا أناتوليوس بطريرك القسطنطينية.
ويقول الأب ميثوديوس مطران أكسيوم: المعلومات التي لدينا لا تصور دیسقورس كهرطوقي، فمن المعلومات التي بين أيدينا واضح أنه كان إنسانا صالحا، بل والأسقف لاون نفسه حاول أن يكسبه إلى جانبه… هكذا في خطاب بعث به الإمبراطور ثيؤدوسيوس إلى ديسقورس دعاه فيه إنسانا تشع منه نعمة الله، وديعا، أرثوذكسي الإيمان.
في أثناء المجمع أعلن ديسقورس إيمانه مرات عديدة، ولم يدن بأنه هرطوقي، وإنما لأنه رفض رئيس الأساقفة لاون في الشركة، ولأنه امتنع عن حضور المجمع رغم دعوته ثلاث مرات.
الأدلة كافية للكشف عن أسباب أخرى لإدانة ديسقورس. فإن روما كانت في ضجر بسبب الحيوية غير الطبيعية لكنيسة الإسكندرية وبطريركها النشيط.
صادق الملك على قرار المجمع وأصدر أمره بنفي البابا ديسقورس إلى جزيرة غاغرا باسیا الصغرى. وبقي في منفاه مدة خمس سنوات صرفها في هداية الضالين وشفاء المرضى، وانتقل إلى عالم المجد سنة 457م.
ما هي نتائج مجمع خلقيدونية على كاتیشیزم الكنيسة؟
من القرن السابع حتى التاسع
كان دور الحكومات الإسلامية المختلفة، خاصة المتطرفة استخدام العنف في طرد الأقباط من المراكز الحكومية ومصادرة ممتلكات الأقباط، والالتزام بالتكلم باللغة العربية ومقاومة استخدام أية لغة أخرى في الحديث والكتابة. وأيضا القيام بأعمال الإبادة وعزل الأقباط عن العالم الخارجي، حتى صار بقاء الأقباط إلى يومنا هذا إحدى معجزات الدنيا كما قالت مدام Bucher بجامعة أكسفورد.
هذه الظروف دفعت على الحفاظ على العقائد والتقليد والطقوس دون أي انحراف. المرحلة السادسة: من القرن العاشر حتى الخامس عشر في القرن العاشر الميلادي لأول مرة ظهرت الكتابات العربية للأقباط على يد الأنبا ساويروس بن المقفع أسقف الأشمونين، نجد أن كتابا بعنوان: “الدر الثمين في إيضاح الاعتقاد في الدين” ينسب في بعض المخطوطات لابن المقفع وفي البعض الآخر للأسقف بولس البوشي (ق ۱۳) والذي تأثرت كتاباته بالقديس أثناسيوس، ويشمل هذا الكتاب ۱۰ فصلا عن عقيدة الكنيسة ويستشهد كاتبه بالكتاب المقدس وأقوال الآباء لإيضاح موضوعات الثالوث القدوس والتجسد والروح القدس. ورد فيه اسم أثناسيوس الرسولي 16 مرة مع نصوص له. ولأهمية هذا الكتاب العقائدي القيم تسخت منه عدة مخطوطات بلغت ۳۱ مخطوطا وانتشرت في مكتبات العالم في الشرق والغرب.
يعتبر القرن الثالث عشر الميلادي العصر الذهبي للأدب العربي المسيحي للأقباط، فقد ظهر في هذا القرن عدد من الكتاب يفوق العدد الذي ظهر في القرون السابقة والقرنيين اللاحقين. ويرجع هذا إلى حالة الهدوء والاستقرار والسلام الذي عاشته الكنيسة في العصر المتأخر للدولة الأيوبية (1171 – 1250) حيث أتيحت حرية التعبير وكثرت مجالات الحوار سواء على مستوى السياسي أو الديني.
من أهم الكتاب الأقباط الذين ساهموا بكتاباتهم المختلفة في تكوين وإثراء التراث العربي المسيحي هو الأسقف بولس البوشي كان مرشحا للكرسي البطريركي بعد نياحة الأنبا يؤانس السادس البطريرك 74 ( ۱۲۱۹ – ۱۱۸۹ م). له عدة مؤلفات جيدة في تفسير الكتاب المقدس والعقيدة والدفاع عن المسيحية وفي أمور کنسية ورعوية.
المرحلة السابعة: من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين لعل من أشهر الأحداث في هذه المرحلة الآتي:
وكان الغرض الأول من الحملة كما قال بونابرت “كسر شوكة الإنجليز في الشرق”.
يرى البعض أن لهذه الحملة. الأثر في تكوين مصر الحديثة. فقد أنشأ نابليون بونابرت دواوين أو مجالس مؤلفة من كبار العلماء والتجار وممثلي الطوائف للنظر في الشئون العامة، وكان بونابرت أول من أدخل النظام النيابي في مصر.
وقد عمل الفرنسيون على تحسين العاصمة، فأنشأوا طرقا واسعة منتظمة في المدينة وغرسوا الأشجار على جانبي الطرق، وأرغموا السكان على الإضاءة ليلا، وردموا بركة الأزبكية وحرموا الدفن في جباناتها، فأصدروا منشورا يقضي بدفن الموتى في أماكن بعيدة عن المدينة اتباعا لأصول الصحة.
أتى نابليون إلى مصر بوفود من العلماء والمفكرين للتنقيب عن آثارها والوقوف على أسرار طبيعتها المجهولة، لقد أيقظ المصريين في هذا المجال، إذ حدثت هزة عنيفة في البلاد تمخضت عنها الفكرة الاستقلالية التي ظهرت ملامحها في عصر محمد على وتجلت في عصر إسماعيل باشا.
بالنسبة للاستعمار البريطاني، فقد وجدت شخصيات قبطية تبذل كل الجهد لإبراز وطنية الأقباط.
أما عن أثر الحملتين على كاتیشیزم الكنيسة القبطية، فقد نشأت المدارس الفرنسية والبريطانية، وكان من أثرهما أن صارت بعض العائلات الغنية من الأقباط والمسلمين تتحدث الفرنسية وتجيدها عن العربية، كما اهتمت المدارس الحكومية بتدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية، واهتمام بعض الأعمال الحرة أن تستخدم الإنجليزية مع العربية في بعض إعلاناتها. كما فتح الباب للإرساليات الكاثوليكية والإنجيلية (البروتستانت) للدخول إلى مصر، وقام بعض الدارسين الأقباط إلى الكتابة للكشف عن المفاهيم الأرثوذكسية، وإذ هوجمت الكنيسة في عقائدها وطقوسها ظهر اللاهوت الدفاعي. ٣. حبيب جرجس (۱۸۷۹-۱۹۰۱): وجدت شخصيات من رجال الكهنوت والشعب قاموا بحركات قوية للإصلاح، نذكر الشخصية البارزة الأرشيدياكون حبيب جرجس.
كان مفكرا ودارا وكاتبا لاهوتيًا ورائدا في مجال التعليم الديني. ولد في الأزبكية بالقاهرة، والتحق بالمدرسة القبطية بحارة السقايين. وهو من أوائل الطلبة الذين التحقوا بالكلية الإكليريكية بعد أن أعاد البابا كيرلس الخامس افتتاحها عام ۱۸۹۲، وتخرج فيها عام ۱۸۹۸، وغين مدرا للاهوت بها في ۸ مايو عام ۱۸۹۹ وكان عمره قد بلغ ۲۳ عاما، ثم عميدا لها في 14 سبتمبر عام ۱۹۱۸. افتتح فصولا مسائية لخريجي الجامعة بالمدرسة اللاهوتية عام 1945.
كان واعظا مشهورا، كما أسس حركة مدرسة الأحد، وكتب أول منهج لها، وقام بتدريب مدرسيها وعقد مؤتمرات لهم. اختير سكرتيرا عام للجنة مدارس الأحد في عام ۱۹۲۷. أصدر مجلة الكرمة أسبوعيا (۱۹۰۹-۱۹۲۳). نال ثقة أربعة بطاركة وهم كيرلس الخامس (البابا ۱۱۲)، ويؤانس التاسع عشر (البابا ۱۱۳)، ومكاريوس الثالث (البابا ۱۱۶)، والبابا يوساب الثاني (البابا ۱۱۵). كان يقوم بدور المشير لعدة بطاركة، خاصة البابا كيرلس الخامس. ترشح للأسقفية ثلاث مرات، ومرة للباباوية.
كان يشترك في المجمع المقدس لخبرته كرئيس شمامسة وخدمته الطويلة في مجال التعليم والتربية الكنسية. نجح في إدخال الدين المسيحي في المدارس الحكومية للمسيحيين.
نشر 26 كتابا والكثير من الترانيم، كما وضع كتب للأطفال وصلوات المناسبات مختلفة. وضع كتابه: الإصلاحات العملية في الكنيسة الأرثوذكسية. حث البابا كيرلس الخامس على توجيه المطارنة والأساقفة أن يختاروا خريجي الإكليريكية وسيامتهم كهنة في إيبارشياتهم.
المرحلة الثامنة: منذ ثورة ۲۳ يوليو ۱۹۰۲ حتى عام 1947
سمح الله بهذه المرحلة مع ما فيها من متاعب، فقد أبرز الله عمله معنا كثيرا، نذكر منها الآتي:
كثيرا ما أتهم قادة الكنيسة بالخيانة الوطنية لمجرد اشتراكهم في مؤتمرات مسيحية عالمية.
في اختصار لم يكن للكنيسة حرية الحركة، لكن يبقى الله حافظا لإيمانها المستقيم، عاملا بكل قوة كشاهدة للحق الإلهي.
المرحلة التاسعة: بدء حركة الهجرة وانتشار الأقباط في العالم منذ عام ۱۹۹۸.
ما عاناه الأقباط في المرحلة السابقة، دفع الكثيرين إلى الهجرة إلى أمريكا وكندا وأستراليا وأوروبا . اعترف عن نفسي وزملائي بالكنيسة كنا نحسب الهجرة هروبا من احتمال الصليب. لكن قداسة البابا كيرلس كثيرا ما صرح مع بعض العائلات والأفراد المهاجرين، أن الله يرسلهم إلى المهجر ليشهدوا الإنجيل المسيح. لقد صارت هناك احتياجات كثيرة تلتزم بها الكنيسة، سبق الحديث عنها في أكثر من مناسبة، خاصة في “مذكرات كاهن في أرض المهجر” في جزئين. الآن بعد أن مر على حركة الهجرة أكثر من نصف قرن، أشعر بالحاجة إلى تسجيل كاتیشیزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية”.